الحرب على غزة وصلت إلى أدق لحظاتها. اجتياح الشمال ومدينة غزة مثل ذروة المجازر، والانتقال إلى خان يونس كان رقصاً دموياً مع قيادة حماس، أما غزو رفح، فهو الخطوة الأخيرة في مسار الابتلاع. نحو مليون ونصف المليون فلسطيني لن يكون أمامهم سوى التوجه جنوباً نحو سيناء.
هل حان موعد تحقيق الحلم الذي راود غولدا مائير ولم تتردد في مكاشفة العالم به، حين قالت: “أتمنى أن أستيقظ في الصباح لأكتشف أن البحر قد ابتلع غزة”؟، حينها كان هذا الحلم حصيلة صدام اليسار الصهيوني بواقع ما بعد الترانسفير الأول. كتل سكانية فلسطينية في الضفة والقدس وغزة، هي خليط من نازحين ومن مجتمعات محلية، وكان على إسرائيل الأولى أن تتعامل مع هذا الواقع، وأن تحلم باجتثاثه!.
اليوم انتقلنا من “الحلم اليساري” إلى “المهمة اليمينية” في اللحظة مواتية، كما لم تكن منذ نشوء إسرائيل. ونحن هنا حيال سلطة يتقاسمها اليمين الصهيوني واليمين الديني، وحيال رأي عام إسرائيلي مستعد لرفد الخطوة بما تحتاجه من “تضحيات”. أما اليسار المحتضر، فما سيقدم عليه نتانياهو لا يتجاوز تحقيق حلم الأيقونة التاريخية لحزب العمل وتلميذة بن غوريون النجيبة، غولدا مائير!.
الحرب على غزة وصلت إلى أدق لحظاتها. اجتياح الشمال ومدينة غزة مثل ذروة المجازر، والانتقال إلى خان يونس كان رقصاً دموياً مع قيادة حماس، أما غزو رفح، فهو الخطوة الأخيرة في مسار الابتلاع. نحو مليون ونصف المليون فلسطيني لن يكون أمامهم سوى التوجه جنوباً نحو سيناء.
الموقف الأميركي من الخطوة لا يبدو أنه حاسم لجهة الرفض، فبين مخاوف الرئيس جو بايدن، والشروط “الإنسانية” التي سربتها إدارته، يبدو أن نتانياهو يستثمر في تشتت الإدارة في واشنطن، وغير قلق من تصريحات بايدن المترنح في عام الانتخابات. أما إشارة بايدن إلى خطة لحماية المدنيين، فيفسرها نتانياهو بفتح الطريق لهم إلى سيناء.
الشرط المصري لـ”الترانسفير” غير ناضج، إلا أنه لا يعدم شروط المفاوضة. النظام مختنق بأزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، واقتصار التلويح على تعليق اتفاقات كامب ديفيد، يعني أن التفاوض على الثمن سيعقب الخطوة. أما الجنود المصريون على الحدود والذين سيواجهون بموجات من الهاربين من آلة القتل الإسرائيلية، فلن يكون أمامهم سوى التعامل مع الحقيقة الإنسانية.
إسرائيل، وبعد نحو أربعة أشهر من الحرب، ما زالت تشعر أنها في فترة سماح. الإعلام العالمي ما زال إلى جانبها، والحساسية العربية حيال الترانسفير مخترقة بمصالح النظام المصري وبتواطؤ جماعة اتفاقات ابراهام.
وحيال هذا المشهد القاتم، لا يبدو أن حماس جاهزة لأكثر من مواصلة القتال، وهو قتال على حافة النهاية، فالإنجازات تقتصر على قتل مزيد من الجنود الإسرائيليين، والأسرى لديها قد تحولهم إسرائيل إلى ذريعة لمواصلة الزحف نحو الجنوب.
مستقبل نتانياهو لم يعد مهماً طالما أن المهمة ممتدة من حلم غولدا مائير إلى جلافة بن غفير. فـ”غوش قطيف” التي أنشأها الآباء المؤسسون في غزة، وفككها آرييل شارون، صارت في الخطاب الجديد “غزة بيتنا”. وهنا يبدو أن سبل مواجهتنا لهذا الاستحقاق ستقتصر على تعرية دموية آلة الحرب الإسرائيلية، وهي مهمة لا يبدو أنها تلقى صدى يكفي للحد من الحملة في ضوء استمرار فترة السماح. وحماس لم تعد نفسها لأكثر من القتال.
إنها لحظة المواجهة فعلاً، وحماس عدو نموذجي، ترى إسرائيل أنه ضروري لهذه الخطوة. وهي خطوة ليست على طريق تصفية القضية الفلسطينية فحسب بل أيضا على طريق انقلاب كبير لن تنجو منه بلدان كثيرة، مثل مصر والأردن ولبنان.
وهنا سيحضر سؤال عن “حل الدولتين” الذي يؤكد الأميركيون أنهم بصدده في اليوم التالي للحرب، والذي وضعته السعودية كشرط للتطبيع مع اسرائيل! أي دولتين، لا بل أي دولة فلسطينية سنكون حيالها؟ دولة من دون غزة، ومع مستوطنات في الضفة الغربية يسكنها أكثر من 700 ألف مستوطن إسرائيلي، وقدس شرقية مستباحة من الأحزاب الدينية.
هذا قبل أن نتحدث عن مستقبل الأردن في ظل طموحات طرد مزيد من الفلسطينيين إليه وعن سيناء وقد نقلت إسرائيل إليها أهل غزة، وعن لبنان وعن احتمالات الحرب على حدوده.
البحر لن يبتلع غزة، الحرب ستبتلع بلداناً كثيرة إذا ما تحقق حلم غولدا مائير.