أربيل – هناك أربع دول رئيسة من بلدان الشرق الأوسط- تركيا وإيران وسوريا والعراق- يتجاوز مجموع سكانها 200 مليون نسمة، تحوي كل واحدة منها “أقلية قومية كردية”، تتراوح نسبتها بين 15-25 في المئة، وتستند القوى والأحزاب السياسية المعبرة عن أبناء “القومية الكردية” في هذه البلدان إلى تنظيمات مسلحة رديفة لها.

وتتفاوت هويتها ونموذجها التكويني بين “جيوش شبه نظامية مُعترف بها دستوريا”، كما هي حالة “قوات البشمركة” في إقليم كردستان العراق الفيدرالي، أو قوة سيطرة عمومية، تُدير منطقة واسعة من البلاد بحكم الأمر الواقع، مثلما هي “قوات سوريا الديمقراطية” في سوريا، أو فصائل مسلحة تقود حركات من الكفاح المسلح ضد السلطات الحاكمة لبلدانها، وفق ما يقوم عليه “حزب العمال الكردستاني” في تركيا أو مجموع الأحزاب “القومية الكردية” في إيران، حيث الجامع الرئيس بين الفئتين الأخيرتين، هو إقامة قواتها العسكرية الرئيسة خارج بلدانها، وتنفيذها عمليات عسكرية محدودة بين فترة وأخرى.

رؤيتان تقليديتان

منذ عقود عدة، عندما بدأت القوى السياسية الكردية في هذه البلدان تأخذ منحى “العمل المسلح”، وتؤسس فصائل وتنظيمات حربية، وتنفذ عمليات عسكرية ضد جيوش هذه البلدان، للمطالبة بـ”الحقوق القومية” للأكراد فيها، فإن رأيين مستقطبين كانا يُطرحان بشأن تأثيرات وأدوار التنظيمات الكردية المسلحة في هذه الكيانات، على “هوية الدولة ودورها ووظائفها العامة” فيها، وعلى كامل العمران السياسي والإداري والاقتصادي وتحولاته ضمنها. لا يزال الرأيان حاضرين بقوة في الفضاء السياسي/الفكري في هذه البلدان:

رأي أول كان مصدره عادة جهات مرتبطة بالسلطات الحاكمة والغالبية الشعبية في هذه البلدان، يرى في التنظيمات الكردية المسلحة أداة لتفكيك وبعثرة وتجزئة مجموعة من الدول “الناجزة”، خدمة لمصالح القوى الدولية الكبرى. ويعتبرها أدوات لا تنتج فعليا إلا تثبيطا لحركة التحديث السياسي في هذه الدول، لأنها تقوي التيارات القومية اليمينية والعسكرية المتطرفة في كل واحدة من تلك البلدان، وتزيد من مستويات النعرات القومية والشقاق الاجتماعي فيها، وتحور من جوهر المسألة السياسية فيها، ليكون صراعا على الهوية.

على النقيض منها تماما، فإن الأدب السياسي الكردي كان يؤشر إلى تلك التفسيرات على اعتبار أنها نزعات لا ترى في الدولة إلا أداة كبرى لـ”السطوة العامة” فحسب، محتكرة لأبناء “القوميات المركزية” /الغالبية على غيرهم من المكونات، دون أية هويات ووظائف عامة أخرى، مثل احترام واحتواء التنوع العرقي والديني والثقافي، والاعتراف بالتنوع وتنميته على الدوام، أو تأمين مساواة واضحة لجميع السكان أمام القانون والتشريعات، وفي آليات صناعتها وإقرارها، أو تأمين عدالة تنموية بين مختلف مناطق وجغرافيات البلاد، وتوزيع الخير العام بعدالة واضحة فيما بينها، بغض النظر عن الهوية القومية لسكانها.

كان الأدب السياسي الكردي يرى في القراءة الأولى أداة لتجيير الدولة لتكون مجرد سلطة عارية، قابلة حتى لتنفيذ إبادة جماعية ضد سكانها، وهو ما تناهضه، معتبرة نفسها أداة لتعميق قيم ومعايير التحديث في بنية الدولة، وجهة مستعدة لوضع السلاح جانبا، لو تعهدت المنظومات الحاكمة بتحقيقها، أو حتى تحقيق جزء منها لأنها بالأساس لم تصل لمرحلة حمل السلاح، إلا بسبب انعدام إمكانية الوصول لتلك المبادئ في بنيان الدولة بأية أداة أخرى، جربها الأكراد كلها، لكن الدولة بقيت متمركزة حول هويتها السلطوية، فلجأ الأكراد إلى خيار الكفاح المسلح.
الحيز الأكبر من ذلك النقاش لا يزال حيا، تتلقفه أطراف النزاع في البلدان الأربعة. يحتوي في جنباته على الكثير من سوء الفهم المتبادل، المتأتي من عدم الاتفاق على ماهية الدولة ومؤسساتها ومواثيقها، وأدوارها المفترضة ومحدداتها العامة، وقبل ذلك آلية تشكيل سلطاتها ومواقفها المفترضة من أعضاء “الأقلية” الكردية في هذه البلدان. لكن سوء التفاهم مبني أساسا على انعدام الثقة المتبادلة، فالأكراد يعتبرون في لاوعيهم السياسي المستبطن أن قوة أية دولة من هذه، إنما ستكون فعليا ومباشرة على حسابهم، وأداة لعودة القمع الماحق ضدهم، ويستندون بذلك إلى إرث غزير من الوقائع التي جرت بحقهم. أما النُخب السياسية و”القوميات المركزية” في هذه البلدان، فلا ترى في الجماعات الكردية المسلحة إلا أداة للحلول مكان الدولة في أماكن وجودها، لا تؤمن ولا تصدق الطروحات السياسية الكردية، حول الديمقراطية والتحديث وحقوق الإنسان والمساواة في المواطنة، تعتبرها نوعا من التقية السياسية فحسب، إلى حين الوصول لما يعتبر خطها الأحمر، المتمثل في تفكيك هذه الدول وتشكيل كيان كردي على مساحة من أراضيها.

ثلاث مراحل

في مراحل تطورها، مرت التنظيمات المسلحة الكردية في دول المنطقة بثلاث مراحل متتالية، كانت في كل واحدة منها ذات موقف واضح من الدولة. ذلك الموقف كان يشكل عضد أيديولوجيتها وخطابها وتطلعاتها السياسية، لأنها بالأساس كانت حركات مناهضة للدولة، أو لشكلها وآليات عملها، وليس لأية قطاعات مجتمعية أو عرقية ضمنها، كما أصرت أدبيات الحركة القومية الكردية على الدوام.
وطوال عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن المنصرم، بُعيد انهيار الإمبراطوريات القديمة في المنطقة وانبلاج الدول الحديثة، قام الكثير من الحركات الكردية المسلحة، في إيران وتركيا والعراق، وحتى في سوريا، مثل ثورة الشيخ محمود الحفيد عام 1919 في العراق، وانتفاضة الشيخ سعيد بيران، وثورة آغري، وثورة ديرسم، في أعوام 1925 و1927 و1937 على التوالي في تركيا، مرورا بتنظيم “خويبون” المسلح في سوريا عام 1927، أو إعلان دولة كردستان في مدينة مهاباد في إيران عام 1946.

 

كانت جميع هذه الحركات تملك وتبني مشروعها السياسي على رؤية جذرية من الدول المشيدة حديثا، ترفض الاعتراف بها وبشرعيتها، تراها كيانات محتلة لجغرافيا ذات هوية قومية كردية، وتجهد في سبيل التحرر منها. كانت التنظيمات المسلحة الكردية وقتئذ جزءا من حركات التحرر العالمية، التي صعدت عقب الحرب العالمية الأولى، تستمد خطابها ورؤيتها مما كان لهذه الأخيرة، على الرغم من الفارق السياسي الجوهري بينهما، بين مناطق جغرافية كانت مستعمرة ومحتلة من دول عالمية مركزية وبعيدة عن المناطق المحتلة، وبين الظرف الكردي، حيث كانت “قوميات محلية” ودول إقليمية ناشئة تسيطر على مناطقهم، بتعاون وقبول من الدول الكبرى.

طوال عقدين كاملين، منذ النصف الثاني من الأربعينات وحتى النصف الأول من الستينات، لم تنبلج حركات قومية كردية في هذه البلدان، لا سياسيا ولا عسكريا، يسميها زعيم “حزب العمال الكردستاني” عبدالله أوجلان في كتاباته “عقدا الموات القومي”. لكنهما كانا العقدين اللذين ثبتت فيهما الدول الناشئة أركانها، وبنت جيوشا حديثة وصارت جزءا من تحالفات إقليمية ودولية كبرى، وصار لها حكومات واقتصاديات منتجة ومؤسسات حكم ونُخب سلطوية.
لأجل ذلك بالضبط، حين اندلعت الموجة الثانية من الحركات المسلحة الكردية، ثورة سبتمبر/أيلول في العراق عام 1961، وإعلان “الحزب الديمقراطي الكردستاني”/ إيران الكفاح المسلح في أواخر السبعينات، وصولا لإعلان “حزب العمال الكردستاني” القتال المسلح ضد السلطة التركية عام 1984، فإنها جميعا كانت ترتب رؤيتها ومطالبها السياسية ضمن الوحدة السياسية للبلدان التي تنشط فيها، تراوحها بين المطالبة بالاعتراف القومي بالأكراد ومنحهم منطقة وأشكالا من الحكم الذاتي المحلي وإن كانت في شعاراتها العليا وخطاباتها الموجهة للقواعد الكردية تقول إنها تسعى لتحقيق “دولة كردستان”، لكنها جميعا كانت مجبولة بواقعية سياسية واضحة تجاه حتمية هذه الدولة.
منذ أوائل الألفية الجديدة، ومع إلقاء القبض على زعيم “حزب العمال الكردستاني” والاحتلال الأميركي للعراق وزيادة الهيمنة السياسية الإقليمية لإيران على دول المنطقة، بدلت الحركات السياسية- المسلحة الكردية نوعيا من دعواتها واستراتيجياتها ضمن هذه الدول، وصارت أكثر ميلا للتشاركية، وللحديث الدائم عن دمقرطة هذه البلدان والعمل مع القوى السياسية داخلها، والشراكة معها والاستفادة من مناهضتها لأنظمة هذه الدول وتناقضاتها فيما بينها. فغدت بمعنى ما تشكيلات سياسية- عسكرية داخلية ومحلية تماما، تشبه وتتطابق مع الفضاء الوطني لدولها وحساسياته وحساباته وتفاصيله، وما لا يقارن بما يجمعها مع القوى الكردية خارج حدود البلدان، أو عن الفكرة الكبرى المتعلقة بتفكيك الدول وإنشاء كيان كردي خاص مستقل عن الكل.

دور التنظيمات المسلحة

حسب الوقائع السياسية، والتغيرات الجذرية التي أصابت الحركات الكردية خلال هذه العقود الطويلة، ومعها التحولات والمسارات المختلفة تماما التي سارت بها مصائر وأحوال كل واحدة من هذه الدول الأربع، فإن تموضع الحركات والفصائل المسلحة الكردية متراوحة على طيف واسع من الأسس وآلية الفعل والتأثير على كل مؤسسات وأداور وفاعلية أية دولة منها، فقوات “البيشمركة” في إقليم كردستان العراق تعتبر نفسها فعليا جيشا لإقليم كردستان العراق الفيدرالي، متباينة جذريا مع ما كانت عليه طوال سنوات كثيرة منذ تأسيسها عام 1961، ومع مختلف الجماعات المسلحة الكردية الأخرى. فـ”البيشمركة” تعتبر نفسها جهازا عسكريا نظاميا ودستوريا، يتبع حكومة ذات شرعية، مفروزة عن برلمان منتخب، ولا تتبع أي حزب سياسي بعينه، وإن كان للأحزاب تأثيرات واضحة عليها، من خلال الرموز وأشكال النفوذ السياسية.

 

على العكس تماما من كل التجارب الكردية عبر التاريخ، فإن قوات “البيشمركة” الكردية في العراق تأخذ على الجيش العراقي النظامي نفسه الكثير من المآخذ فيما خص علاقته التعاقدية الاحترافية المفترضة مع الدولة ومؤسساتها وأعرافها ومواثيقها. فقوات “البيشمركة” في خطابها العام تعتقد أن القوات المسلحة في باقي مناطق العراق تشملها “الفوضى العسكرية” بسبب وجود الفصائل المرتبطة بالأحزاب السياسية، وموالاتها لدولة خارجية، وأيديولوجيتها وخطابها وأفعالها الطائفية والمناطقية.
هذا غير إرغامها للدولة على عدم القيام بالكثير من وظائفها التقليدية، مثل حماية الدستور والإشراف على السيادة وإنفاذ القانون. فتجربة إقليم كردستان، وبسبب الموقف المستقل والحيادي لقوات “البيشمركة” عن الحياة السياسية داخل الإقليم، تصنف حسب الرؤية الكردية كمشروع أكثر حرفية وحداثة من حيث صحة علاقة الجيش مع الدولة ووظائفها.
تستشهد قوات “البيشمركة” بالفارق الواضح في الإشراف على الفضاء العام وحماية الوظائف العامة للدولة في محافظتي كركوك ونينوى (الموصل)، حينما كانت تحت سيطرة قوات “البيشمركة” بشكل كامل خلال الأعوام 2014-2017، وما صارت عليه فيما بعد، حينما غدت اسميا تحت سيطرة الجيش العراقي، لكن خاضعة فعليا لهيمنة واضحة لطيف واسع من ميليشيات “الحشد الشعبي”، التي صارت تتدخل في شؤون الإدارة العامة تفصيليا في هاتين المحافظتين، لكل واحدة منها مكتب اقتصادي هو فعليا بمثابة جهة لفرض الإتاوات من خارج القانون، وتجيير كل الفعل العام ليكون تحت سيطرتها ولمصالحها، دون اعتبار للمعايير الدولتية لعلاقة المؤسسة العسكرية والأمنية مع باقي قطاعات الدولة.
تشكو قوات “البيشمركة” من حرمانها الكثير من أنواع التسليح والتمويل، بسبب سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003، على الرغم من استقطاع مبالغ مالية ضخمة من حصة الإقليم من الميزانية العامة لصالح تمويل وتسليح الجيش والأجهزة الأمنية والاستخباراتية العراقية، تحت بند “المصاريف السيادية”، لكنها لا تخصص ما هو مناسب لصالح “البيشمركة”، المثبتة في الدستور العراقي كتشكيل عسكري وأمني عراقي مخوّل حماية إقليم كردستان.
في الوظائف القانونية المشتركة بين قوات “البيشمركة” والجيش العراقي وباقي المؤسسات الأمنية في العراق، فإن “البيشمركة” تعرض وتنفذ تعاونا تاما معها. فثمة مكاتب تنفيذية لأجهزة الاستخبارات العراقية في محافظات إقليم كردستان، وأجهزة المراقبة والتدقيق الجنائي والاستخباراتي مرتبطة ومتعاونة تماما بين الجيش وقوات “البيشمركة”، والمنافذ الحدودية والجوية في كردستان مُدارة من أجهزة وزارة الداخلية العراقية، وإن كان موظفوها من مواطني إقليم كردستان.

 

تنظيم “قوات سوريا الديمقراطية” وهو تحالف من القوى المسلحة، المسيطرة على كامل منطقة شمال شرقي سوريا، تشكل “وحدات حماية الشعب الكردي” (YPG) نواته الأساسية القائدة، وهو مبني على مجموعة من الاعتبارات المختلفة. فهذه القوات لا تحظى بأية شرعية قانونية من الدولة السورية، بل هي قوة سيطرة عسكرية بحكم الأمر الواقع، لكن ليس فقط كذلك. فعلى المستوى العسكري ترى “قوات سوريا الديمقراطية” نفسها أداة لمحاربة الإرهاب ومناهضة نظام سياسي شمولي، لم يكن قادرا وممارسا لأي من وظائف الدولة التقليدية، بل سلطة فرغت كل مؤسسات الدولة وأدواتها من وظائفها الافتراضية، وصارت تتصرف كميليشيا مسلحة، تتبع وتدافع وتنفذ سياسات مجموعة الحاكمين فحسب، عبر استخدام القوة العارية فقط، دون أية سلوكيات وضوابط تمت لأساسيات الدولة وما يميزها عن الفصائل المسلحة في مناطق حكمها.

عمليا، شيدت “قوات سوريا الديمقراطية” منظومة حكم محلية كاملة الأركان: مجلس تشريعي محلي بمثابة البرلمان، بداخله الكثير من الأحزاب السياسية، ويراعي تماما مسألة توازن “التنوع القومي” في منطقة سيطرتها. وثمة أيضا مجلس تنفيذي، يوازي بدوره ما تقوم به الحكومة، يُيسر كل تفاصيل الحياة العامة في قطاعات الصحة والتعليم والأمن والضمان الاجتماعي والاقتصاد والثقافة وحماية الممتلكات العامة، في منطقة تتجاوز مساحتها ثلث مساحة عموم سوريا، ويقطنها أكثر من 5 ملايين نسمة.

لا تتدخل “قوات سوريا الديمقراطية” مباشرة في أي من تلك القطاعات، ولا تعترض على أشكال تعاونها وتداخلها مع نظيرتها في الحكومية المركزية، وتعترف بالوثائق والعقود الصادرة عن هذه الأخيرة، وترى نفسها جزءا مستداما من الدولة السورية، راهنا ومستقبلا، جاهزة للاندماج الإداري والسياسي، وحتى العسكري، ضمن الكل السوري، لكن بشرط أن تعترف الدولة السورية بخصوصية وأحقية تلك المنطقة بنوع من الحكم المحلي، بما في ذلك الاعتراف بـ”القومية الكردية”، بالإضافة إلى إجراء تغييرات جذرية في بنية وآلية الحكم، لتكون أكثر ديمقراطية.
ولا ترى هذه “القوات” ضيرا في مقارنة تجربتها بباقي التجارب السورية خلال المرحلة الأخيرة من التاريخ السوري المعاصر، منذ عام 2011. فالقوة العسكرية الضخمة التي نظمتها خلال هذه السنوات، حيث يتجاوز عدد أفرادها 100 ألف مقاتل، والقيمة الرمزية والسياسية التي راكمتها بسبب مشاركتها الحيوية في محاربة تنظيم “داعش”، ومعهما التحالف العسكري المتين مع قوى التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، لم يدفعها كل ذلك لتشييد نظام شمولي تسلطي كما في مناطق النظام السوري، أو فضاء سياسي أيديولوجي متطرف مناهض للقيم والحياة العامة المدنية، كما في منطقة إدلب الخاضعة لتنظيم “جبهة النصرة”، أو فوضى إدارية وأمنية وسياسية، كما في المناطق الخاضعة للفصائل السورية التابعة لتركيا. ومع تلك الخصائص تعتبر نفسها الجهة الوحيدة المستعدة للقبول بمفاوضة باقي الجهات السورية سياسيا، بغية التوافق على شكل ومنظومة الحكم المستقبلية في البلاد.

قياسا على ذلك، فإن “حزب العمال الكردستاني” في تركيا مر بمرحلتين خلال نشاطه المسلح، فيما خص تأثيره على وظيفة الدولة وآلية فعلها ومستقبلها في تركيا. فمنذ انطلاق كفاحه المسلح عام 1984، وصولا لذروة نشاطه العسكري وسيطرته النسبية على بعض المناطق الجبلية الوعرة في أقصى جنوب شرقي تركيا في النصف الأول من التسعينات، كان مقاتلو الحزب يُعتبرون فاعلا سلطويا في كامل المناطق ذات الأغلبية الكردية جنوب شرقي تركيا، يفرضون مجموعة من الواجبات على السكان المحليين، يؤثرون على زعماء العشائر وقادة الرأي ورجال الأعمال في المنطقة الكردية، يشيدون توازنا نسبيا في الهيمنة مع الجيش والأجهزة الأمنية التركية.
وقتئذ، كان الصراع المسلح بين الطرفين سببا في تراجع التنمية في المناطق ذات الأغلبية الكردية، واستنكاف الكثير من المؤسسات العامة التركية عن العمل باستراتيجية جدية في تلك المنطقة، بل وهجرة مئات الآلاف من أصحاب الأموال والحاصلين على التعليم العالي نحو مدن الداخل التركي، وتاليا خلو المناطق الكردية من النخب والمؤسسات ذات الفاعلية.
بعد تلك المرحلة، ومع الانكسارات العسكرية لمقاتلي الحزب بعد عام 1994، وطلب زعيمهم المعتقل عبدالله أوجلان أثناء محاكمته من مقاتلي الحزب الانسحاب إلى خارج الحدود التركية، فإن الحزب المسلح خرج تماما من معادلة الحياة العامة ووظائف الدولة وأدوارها، في عموم تركيا، لكن بالذات في المناطق الكردية.
التفصيل الاستثنائي الوحيد أثناء هذا التحول تمثل في صعود “حزب الشعوب الديمقراطية”، الموازي السياسي لـ”حزب العمال الكردستاني”. فهذا الحزب صار يفوز في أغلب الانتخابات المحلية/البلدية والتشريعية البرلمانية في المناطق الكردية، وتاليا صار فاعلا إداريا واقتصاديا في المناطق الكردية، يؤسس لطيف من المؤسسات الاقتصادية والإعلامية والثقافية الفاعلة، ويسعى لأن يغير من هوية وطريقة عمل المؤسسات العامة التابعة للدولة، لتكون أكثر محلية/كردية، وإن كانت جميع محاولاته تفشل، بسبب استخدام الحكومة لسلطتها المركزية في تفريغ منظومة الحكم المحلية لذلك الحزب من حيويته، مستخدمة كل شيء، قانون الطوارئ والقضاء والاقتصاد واختصاصات الحكومة المركزية.
الأحزاب الكردية الإيرانية، وأجنحتها المسلحة بشكل رمزي للغاية، خرجت فعليا من الوقائع اليومية للمجتمع الكردي في إيران، منذ حملة القمع الشديد التي تعرضت لها على يد “الحرس الثوري” الإيراني أوائل الثمانينات، وانتفاء فاعل التناقض الإقليمي الذي كان أثناء الحرب الإيرانية العراقية في عقد الثمانينات. حسب ذلك، صارت الأحزاب السياسية الإيرانية وأجنحتها المسلحة مجرد بقايا رمزية، تستلهمها المجتمعات الكردية الإيرانية بشكل رمزي، في سبيل الإبقاء على زخم هويتها القومية الكردية. لكن المفاوضات المطولة التي تخوضها الأحزاب الكردية مع باقي أطراف وقوى المعارضة الإيرانية، تصر دائما على أن يكون جوهر توافقها تفصيليا، يتمركز حول ما يجب ويفترض أن تكون عليه إيران مستقبلا، نظامها السياسي ومؤسسات حكمها وهوية ووظائف الدولة، وليس محادثات سياسية للتركيز على بعض القيم السياسية العامة فحسب.

السؤال التاريخي

ينفي المختصون في تاريخ الحركات المسلحة الكردية عنها سمة التسبب في حدوث تحولات سلبية في السلطة وبنية الدول التي نشطت فيها خلال هذه العقود الطويلة.

فكل التحولات وأشكال النكوص السياسي في هذه الدول حدثت في أوقات لم تكن فيها الحركات المسلحة الكردية فاعلة. فالانقلاب العسكري الأساسي في العراق، الذي قاده عبد الكريم قاسم ضد الحكم الملكي والنظام الديمقراطي عام 1958، حدث عندما كانت الحركة القومية الكردية “مستسلمة تماما”. ومثلها أيضا الانقلابات المتتالية، وصولا للحروب التي خاضها النظام البعثي والفظائع التي ارتكبها بحق الأكراد في أواخر الثمانينات. الانقلابان العسكريان الأكثر حدة وتطرفا في تركيا، عامي 1971 و1980، كانا قبل سنوات من الأعمال المسلحة لـ”حزب العمال الكردستاني”. الانقلاب على نظام الشاه في إيران 1979، والحرب الأهلية السورية عام 2011، حدثا أيضا في وقت لم يكن لأكراد البلدين أية تنظيمات مسلحة.
المسألة الثانية كانت كامنة في هوية الحركات المسلحة الكردية، التي بمجموعها لم تكن تنظيمات ذات رؤية مناهضة للمضامين الحداثوية والديمقراطية للدول التي انبلجت فيها، كما هي الأحزاب الأيديولوجية، الإسلامية والقومية المتطرفة تحديدا، في هذه الدول، بل على العكس تماما، كانت تنظيمات تطالب الدول والقائمين عليها بالمزيد من تلك المضامين. فهي لم تكن تنظيمات تتصارع على السلطة في بلدانها، بل تنزع نحو تبديل بنية الدولة وتغيير أدواتها ومؤسساتها. وبالضبط لأنها كانت مفروزة عن جماعات “قومية أقلوية”، فهي كانت احتياطا وذات مصلحة في تحديث دولها.