لا تريد إيران خسارة المكاسب التي حققتها إقليمياً منذ مجيء حكومة المحافظين في آب (أغسطس) 2021، والتي اعتمدت سياسة قوامها الأولوية لدول الجوار مع وزير الخارجية حسين عبد اللهيان، لا سيما أن هذه الحكومة الجديدة نجحت في عقد اتصالات أمنية ودبلوماسية غير معلنة مع الولايات المتحدة الأميركية، ما ساهم في حل العديد من القضايا، على عكس الحكومة الإصلاحية السابقة التي وجدت معارضة شديدة من صقور الداخل. حتى أن مغادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاتفاق النووي عام 2018، كانت بسبب جهود الحرس الثوري إلى جانب روسيا في سوريا ضد القوات الأميركية، والهدف كان تدمير الاتفاق النووي، وفق رواية وزير الخارجية السابق في حكومة الرئيس روحاني المعتدلة، محمد جواد ظريف.
ومع مجيء إدارة الديموقراطيين برئاسة جو بايدن، كانت فلسفة البيت الأبيض أنه لا حوار مع الإيرانيين، إلا إذا سيطر طيف واحد على مقاليد أجنحة السلطة. وبالفعل دعم النظام الإيراني هذه الرؤية وقام بهندسة الانتخابات البرلمانية لتكون الغلبة فيها للمحافظين، وأتت الانتخابات الرئاسية أيضاً برئيس محسوب على التيار المحافظ هو إبراهيم رئيسي.
بذلك وجد رجال الدين والعسكريون، بخاصة من الحرس الثوري، حكومةً ومجلس نواب يتماشيان مع أهدافهم وطموحاتهم الداخلية والخارجية.
كان الأميركيون يفكرون بطريقة تعمل على تفكيك العلاقة الجدلية داخل إيران؛ فالمحافظون لن يسمحوا للإصلاحيين والمعتدلين بتحقيق أي قاعدة شعبية واسعة لهم؛ لأن في ذلك مضرة لمصالحهم وتهديداً للطموحات الإقليمية التي تسعى إليها الجمهورية الإسلامية منذ ثورة 1979.
هذا الأمر نجح بالفعل، فالمحافظون داخلياً انقسموا حول معالجة أزمات المجتمع الإيراني، ما يمثل انفراجة في إمكان حدوث التغيير.
وخارجياً نجحوا في الانفتاح في إطار علاقة براغماتية مع دول الجوار، لدرجة أن طهران تلقت تهنئة من السعودية في عيد ثورتها الـ45. وأولئك نجحوا أيضاً في التوصل إلى اتفاق موقت غير رسمي مع الولايات المتحدة، ساعد على عودة صادرات إيران النفطية، والحصول على أموالها المجمدة في الخارج، من دون الحاجة لاتفاق نووي شامل يُخضع إيران للتبعية الأميركية مثلما يحذر المحافظون.
والآن، يبدو أن النظام الإيراني يريد أيضاً أن يستكمل ما حققته هذه المعادلة الناجحة، ما دفعه مرة أخرى إلى الاستفادة من مجلس صيانة الدستور (يطابق دور المحكمة الدستورية) لهندسة انتخابات البرلمان ومجلس الخبراء المقرر إجراؤها مطلع آذار (مارس) القادم؛ إذ إن بقاء المحافظين في البرلمان والحكومة ومجلس الخبراء يضمن استقرار الداخل السياسي في إيران، ويضمن أيضاً استئناف التواصل مع القوى الإقليمية والغربية على المعادلة الحالية نفسها ومن دون وجود خلافات أو انقسام داخلي.
لا انتظار لترامب
عطلت الحرب في غزة التفاهمات بين واشنطن وطهران، بخاصة أن إطلاق إيران استراتيجية “وحدة الساحات” لتنظيم التعاون في ما بين فصائل المقاومة للضغط على إسرائيل؛ هدد بانفلات الأمر وتجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها الطرفان لتنظيم التصعيد بينهما!
فقد وصل التوتر بين الطرفين إلى مستوى قتل جنود أميركيين عند الحدود السورية-الأردنية في مقابل قتل مستشارين إيرانيين داخل سوريا، وهو مستوى خطير أعاد إلى الداخل الإيراني مخاوف ارتبطت بعهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وهي احتمالية توجيه ضربة عسكرية أميركية لإيران.
كذلك جعل إصرار إسرائيل على استعادة نظرية الردع التي تعيش تحت مظلتها، حرب غزة بلا سقف زمني، لدرجة أن بعض المراقبين اعتبر أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ينتظر عودة ترامب، بعد انتخابات الرئاسة الأميركية المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، بخاصة أن نتنياهو لديه خلافات جمة مع إدارة بايدن التي لا تمانع في إعلان إقامة الدولة الفلسطينية. وهو ما جعل حرب غزة تتحول إلى لعبة سياسية إقليمية وأميركية لن تنطفئ نارها حتى يتم تحديد شخص الرئيس القادم إلى البيت الأبيض.
هذا الأمر دفع إيران للانتقال إلى مرحلة جديدة في إدارة سلوكها الإقليمي، الذي هدفه في النهاية إثبات مكانتها وقوة تأثيرها، وليس خسارة مصالحها، فإنها لا تريد الابتعاد من الحلول السياسية المطروحة في المنطقة، وإن اختلفت حول طبيعة هذه الحلول، مثل حل الدولتين الذي ترفضه بالنسبة للفلسطينيين.
وإن كان موقف طهران تجاه هذا الحل بات مشكوكاً فيه، مع دخولها معترك اللعبة السياسية، فإن إيجاد دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل يمثل كابوساً للدولة العبرية، مثلما قال إمام جمعة أردبيل وعضو مجلس الخبراء، سيد حسن عاملي، الجمعة 16 شباط (فبراير) إن حكومة نتنياهو كانت قد سمحت لدولة قطر بتقديم مليار دولار لحركة “حماس” في مقابل الامتناع على الحديث عن حل الدولتين، ما يعني أن إيران ربما لن تعارض هذا الحل ما دام سيحافظ على معادلة التوازن الاستراتيجي.
حلول سياسية
لذلك، دلت جولة وزير الخارجية الإيراني التي بدأها الجمعة 10 شباط (فبراير) إلى لبنان وسوريا وقطر، إلى أن طهران لا تريد خلال المرحلة السياسية المقبلة أن تبقى في الظل، بل تسعى إلى إثبات قدرتها على ضبط خريطة المنطقة، وكأنها تريد إضافة وحدة الساحات “السياسية” إلى جانب “العسكرية”.
بينما يضغط نتنياهو على الفلسطينيين في رفح باسم محاربة ما تبقى من “حماس”، مع وجود تحركات لتجهيز سلطة رام الله لليوم التالي في غزة بعد انتهاء الحرب، وذلك وسط رهانات إقليمية على إمكان مساهمة ذلك في إحياء حل الدولتين، نجد أن طهران لم تكتف بساحة التصعيد العسكري؛ بل طلب وزير خارجيتها من نظيره السعودي، فيصل بن فرحان، في اتصال هاتفي، الجمعة 16 شباط (فبراير)، عقد اجتماع طارئ لوزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي من أجل إيقاف الحرب في غزة، وهو يعرف جيداً أن هذا لن يؤثر على إسرائيل؛ لكن طهران تريد الحفاظ على العمل السياسي بجانب القوى الإقليمية.
كذلك، فإن التصريحات التي أطلقها وزير الخارجية الإيراني خلال جولته الإقليمية حول دعم بلاده للحلول السياسية، وتكراره الحديث عن تلك الحلول خلال اتصاله بنظيره السعودي، بمثابة تأكيد من جانب إيران أنها لا تريد الخروج من المعادلة السياسية والدخول في صدام مع قوى إقليمية، بخاصة أن بعض هذه القوى تتباين في الرؤية والمصالح مع الجمهورية الإسلامية.
كما أن طهران في إدارة علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية لا تريد خضوع هذه العلاقة للسياسة الإسرائيلية التي تهدف إلى جرها إلى الصدام، فهناك اتفاق ضمني بين واشنطن وطهران على عدم اتساع دائرة الحرب، كما أن إسرائيل في إطار تحقيق أهدافها في غزة ومنها استعادة أمنها، تسعى الآن إلى إبعاد “حزب الله” من الحدود الشمالية للأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يهدد بتغيير قواعد الاشتباك بين جيش الاحتلال وقوات “حزب الله” التي ما زالت تحافظ على التصعيد المنضبط. وبالتالي يستدعي ذلك أن تكون إيران أكثر ديناميكية مع التفاعل السياسي الإقليمي والغربي الذي يهدف إلى نزع فتيل الحرب عن لبنان، بخاصة بعد المبادرة السياسية الفرنسية لحل الخلافات بين إسرائيل ولبنان.
 
لحظة حرجة
أيضاً، هناك عدم ذهاب إيران إلى مغامرة إقليمية دافعه اللحظة التاريخية التي تمر بها، فالمرشد الأعلى، علي خامنئي، بلغ عمره خمسة وثمانين عاماً، ما يعني انشغال النظام بتحضير خليفته في ظل الظروف الإقليمية التي تمر بها إيران. فشخصية خامنئي ودوره في بيت الإرشاد ساهما كثيراً في الحد من الصراعات بين أجهزة الدولة المختلفة. وكذلك، فإن الحفاظ على مكاسب إيران ومكانتها الخارجية وفق ما رسمته دولة ولاية الفقيه، يستدعي عدم المغامرة بانتظار رحيل خامنئي فجأةً، بخاصة أن الداخل والخارج يترقبان تلك اللحظة، وهو أمر يعرّض سلامة الدولة الإيرانية للخطر.
لذلك عمل النظام على هندسة المرشحين لانتخابات مجلس الخبراء الحالية، فقد أبعدَ المغضوب عليهم سياسياً، ومنهم الرئيس المعتدل حسن روحاني، ليضمن عملية انتقال سلسة لمنصب المرشد الأعلى، بخاصة أن التيار المعتدل كان يسعى لإحداث تغييرات دستورية على هذا المنصب بأن يتم تحويله إلى مجلس يتشكل من عدد من الأعضاء، وليس شخصاً واحداً، بما يخفف قبضة السلطة الديكتاتورية التي عانت منها إيران منذ المرشد الأول، الخميني، والثاني خامنئي.
وظهرت دعوات أخرى إلى انتخاب المرشد الأعلى بالاقتراع الشعبي المباشر وليس عن طريق تصويت مجلس الخبراء، أو القيام بانتخاب مرشد جديد كل دورة بعد أن يتنافس على المنصب عدد من الأشخاص، وليس الاكتفاء بمراجعة صلاحيته والتجديد له مثلما يتم في الوقت الحالي، والهدف هو ضمان تجديد شخص المرشد وليس انتظار خبر وفاته. وهو ما أفردت له صحيفة “كيهان” المقربة من بيت المرشد العديد من المقالات خلال هذه الأيام للرد عليه تحت عنوان “شبهات وإجابات”.
ويمكن القول إن النظام الإيراني يريد الاحتفاظ بالتركيبة الحالية لإدارة دولته، بما فيها طبيعة عمل بيت المرشد الأعلى ووظيفته، ويمكن أن يكون قد تم فعلياً اختيار عدد من الأسماء الصالحة للترشح لمنصب المرشد القادم بعد رحيل خامنئي، أو أن المرشد الحالي سيُقدم على خطوة ثورية بتركه منصبه عند أول مراجعة لصلاحيته، لمصلحة خليفة آخر متفق عليه، مع مراعاة القواعد الدستورية بما يدعم قانونية الانتقال.