
استيقظت كالعادة الساعة السابعة. شعرت أنني لست على ما يرام، فأمراض الشيخوخة بدأت تظهر بين حين واخر. انقضى كابوس الكورونا على خير، ولم اصب به، وكان هذا انجاز مهم للانتصار للحياة، واعلن عن انتهاء الوباء. نهضت الى الحمام، ثم أعددت قهوتي، وعدت الى مكاني المفضل، وأنا أحمل القهوة وقطعة كيك. جلست على الاريكة بجانب النافذة. فتحت اللاب توب، وأطلقت صوت فيروز الشجي. القيت نظرة عبر النافذة الى الخارج، ثم عدت اتصفح الفيس بوك.
رأيت اشعارا لرسالة. وعندما فتحتها كانت المفاجأة. رسالة من صادق. كتب: ” سلامات صديقي القديم والعجوز فيصل. أتمنى ان تكون بخير. سمعت أنك في السويد. ارجو ان نتواصل”
الله! إنه الفيس بوك! لم نلتق، ولم نتواصل منذ 26 عاما.
اجتاحتني موجة من مشاعر دافئة. شعرت أنني طالب في الجامعة، في غرفتي في المدينة الجامعية، بانتظار صادق وسوزان والحاج. شممت رائحة الطعام الذي أعددته، بطاطا وبيض، شهية وطازجة، مع اللبن والخيار. عبقت رائحة الخيار في أنفي، واشتهيت أن اقضم واحدة من ذلك الخيار الشهي. داهمتني مجموعة من الذكريات الجميلة، كما لو أن الذاكرة لا تختار إلا الاحداث الجميلة. شعرت بملمس الهواء الدافئ في نيسان على ذراعي، وأنا ارتدي قميصا نصف كم، بينما سوزان تمشي الى جانبي، ويدينا متشابكتين. نجتاز حديقة الجاحظ في ابي رمانة، الحي الراقي الشهير، نمني النفس أن نشتري منزلا فيه، ونكون عائلة جميلة، مكونة من بنت وولد. تذكرت ان سوزان هي زوجة الحاج، ولا يجوز لعجوز مثلي أن يترك لنفسه العنان. إنه ماض عمره يقارب نصف قرن.
تحدثت الى صادق عبر الماسنجر، وعلمت أنه لم يتزوج، ويعيش في هولندا، والحاج وسوزان في المانيا ولديهما شابين، أحدهما طبيب والأخر مهندس، ولكن الحاج توفي بسبب الكورونا قبل عام ونصف.
خبر وفاة الحاج صدمني، استحضرته الذاكرة أيام الجامعة. ذلك الشاب الكردي القادم من مدينة القامشلي، وسيم الشكل، بهي الطلعة، معتد برجولته وكرديته. سمعت بالكرد، قبل لقائي به، ولكن لم أكن أعلم أن قسما منهم ما زال مكتوما، لا يملك هوية وغير معترف به كمواطن، وممنوع أن يتكلموا بلغتهم، ولا أن يحتفلوا بأعيادهم. تعرفت ومن خلال الحاج، على شعب هو سوري وعريق بسوريته، ويملك حبا لوطنه لا يقل عن أي مواطن سوري، ولكنه غير معترف به كمواطن سوري. الحاج قدم نموذجا جميلا ورائعا عن الكرد. أحببت من خلاله الكرد، وتعرفت على عاداتهم وتقاليدهم، ورزت قريته وتجولت معه في كثير من المناطق والقرى الكردية بمناسبات عيد النيروز.
الله على جمال اللباس التقليدي التي ترتديه النساء في عيد النيروز. لم يتركن لونا إلا واستخدمنه على ثياب طويلة، ولكن ضيقة عند الصدر و الخصر. تبرز الصدور الجميلة الشابة، والارداف المشدودة. إنه الشباب الذي يرتبط بالجمال قبل كل شيء.
في إحدى المهرجانات النيروزية، ذهبت برفقة الحاج. تسلقنا مرتفعا لهضبة متوسطة الارتفاع. سلكنا طريقا ترابيا متعرجا بين صخور صلدة وضخمة تارة، وبين اشجار غابة تارة اخرى. كنا ضمن تيار من البشر، صبايا وشباب يرتدون زيا كرديا اصيلا. ما سحرني هي الالوان، الوان الثياب النسائية الزاهية، الاحمر والاصفر والاخضر والبرتقالي. هناك في أعلى الهضبة انعقدت حلقات الدبكة في جو من السعادة واندفاع الشباب المتعطش الى الحرية والحياة الكريمة. دفعني الحاج الى حلقة الدبكة بين صبيتين. أمسكت بيد كل منهما، ورحت انسق حركات جسدي لتتناغم مع حركات الاجساد الاخرى. وقتها شعرت بسحر الدبكة وتأثيرها على الناس، وبالصوت العذب لمجموعة من الناس يغنون بصوت واحد أغان، برفقة البزق ذي النغمات الساحرة. اغان تتحدث عن الحرية والحب، واخرى عن الظلم الواقع على الكرد عبر تاريخ طويل من الحرمان. كان الايقاع والكلمات المغناة تجعل جسدي يهتز على وقع الاصوات ونغمات البزق. اذكر من هذه الاغنيات التي ترجمها لي الحاج وقتها:
نوروز نهارنا ودبكة
يوم احتفال وفرح
يضحك فيها السماء والارض
نوروز رائحة الورود
مهرجان الألوان والاغاني والدبكة تجعل المرء ينسى فروقاته مع الاخرين، ويندمج في مهرجان حب رائع، وتبعد الكراهية والحقد التي تصنعه الأيديولوجية، فالأفكار الخطيرة تصنع بشرا خطرين.

كل التفاعلات:
أنت، وNassar Yahia، وثائر أبو وسيم و٧٢ شخصًا آخر
٢٧ تعليقًا
مشاركتان
أعجبني
تعليق
مشاركة
عرض مزيد من التعليقات