لا تملك إسرائيل أي استراتيجية حيال الفلسطينيين. لا قبل حرب غزة الدائرة الآن ولا لما بعدها.
الاستراتيجية الوحيدة التي كان يعتمدها بنيامين نتنياهو وحكوماته المتعاقبة، هي نكران الواقع، والاعتماد على دعم أميركي مطلق، من أجل خلق أمر واقع جديد في الأراضي الفلسطينية. هذا الواقع الجديد لا يأخذ في الاعتبار الدخول في مفاوضات جدّية مع السلطة الفلسطينية من أجل وضع حل الدولتين، الذي تعلن واشنطن على الأقل تأييدها اللفظي له. ولا حاجة للإتيان على ذكر اوروبا التي لا تقدّم ولا تؤخّر في القضايا الدولية.
آخر الرؤساء الأميركيين الذي حاول أن يضغط على إسرائيل من اجل تتفيذ حل الدولتين، كان باراك اوباما. وعلى رغم كل الضغوط التي حاول الأخير ممارستها على نتنياهو كي يقبل بتجميد موقت للاستيطان باءت بالفشل، فتوقفت المفاوضات رسمياً في 2014. عامذاك، ذهب نتتياهو إلى الكونغرس الأميركي مستعيناً به، ضدّ أوباما.
انطلق نتنياهو من سياسة بلا هدف واضح سوى تأبيد الأمر الواقع ممثلاً بزيادة الإستيطان، والتحالف مع أحزاب اسرائيلية متشدّدة دينياً وقومياً، بهدف التشبث بالسلطة. وهذا لا يمكن أن يحصل من دون تقديم تنازلات لهذه الأحزاب التي لا تعترف أصلاً بوجود الشعب الفلسطيني، فكم بالحري الاعتراف بحقه في تقرير المصير. ووجد نتنياهو في الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، حليفاً ذهب في ممالأته أصوات الناخبين الإنجيليين في الولايات المتحدة، إلى حدّ نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بالمدينة عاصمة أبدية لاسرائيل.
فعل ذلك من دون الحصول على أي تنازل من نتنياهو في ما يتعلق بالحقوق المشروعة للفلسطينيين، لا بل أمعن ترامب في تهميش الفلسطينيين وقطع المساعدات الأميركية عن وكالة الأونروا، وأقفل مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وأقفل القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، واعترف بسيادة إسرائيل على المستوطنات في الضفة الغربية وبضمّ الجولان السوري المحتل. فعل ترامب كل ذلك للفوز بولاية رئاسية ثانية وللحصول على أصوات الإنجيليين المولودين ثانية وأصوات اليهود الأميركيين، الذين يقترعون في العادة لمصلحة الديموقراطيين.
وعلى رغم ذلك، فشل ترامب في انتخابات 2020، وأتى جو بايدن، الذي لم يغيّر شيئاً مما فعله ترامب، تحاشياً لإثارة غضب نتنياهو والدخول في صدام مع الحكومة الإسرائيلية ومع كونغرس أميركي موالٍ لإسرائيل إلى أقصى الحدود. وأتت حرب أوكرانيا التي انشغل بها بايدن، وكرّس كل اهتمامه من أجل هزيمة روسيا هناك واحتواء الصعود الصيني في آسيا.
رأى نتنياهو أنّ كل الظروف تعمل لمصلحته، وعاد إلى السلطة قبل نحو عام على رأس أكثر الحكومات تشدّداً في تاريخ إسرائيل، وعلى أجندته تحجيم صلاحيات المحكمة العليا في إسرائيل كي يضمن عدم محاكمته بتهم الفساد وكي ينال رضى المتشدّدين من شركائه في الإئتلاف الحكومي الذين يطمحون إلى ضمّ الضفة الغربية بالكامل وتهجير الفلسطينيين منها بشتى الوسائل.
وسبّب ذلك فتوراً في العلاقات بين بايدن ونتنياهو، علماً أنّ الرئيس الأميركي لم يقارب القضية الفلسطينية، لا من قريب أو بعيد، واكتفى بترداد تأييده حل الدولتين، من دون أن يقرن ذلك بالفعل، وكان كل تركيزه منصّباً على هزيمة روسيا في أوكرانيا.
اما وقد انفجرت غزة في وجه نتنياهو، فإنّ بايدن وجد نفسه ملزماً بحماية اسرائيل، فدفع بحاملتي طائرات ورتّب جسراً جوياً على عجل لتزويد تل ابيب بالذخائر والسلاح، وقَدم هو نفسه إلى إسرائيل، ليثبت أنّه “صهيوني” بالفعل وليس بالكلام فقط، وأنّ الدفاع عن الدولة العبرية يكتسب لديه أهمية تفوق أضعافاً مضاعفة أهمية أوكرانيا.
وفي ظلّ تهديدات إسرائيلية بغزو برّي لغزة و “تغيير الشرق الأوسط” ومع حشودات أميركية جواً وبحراً وبراً، لا إسرائيل تملك استراتيجية للتعامل مع الفلسطينيين غير القتل وارتكاب المجازر، ولا بايدن يجرؤ على اتخاذ خطوات لوضع حل الدولتين موضع التنفيذ.
وعليه، القضية الفلسطينية تبقى قضية عالقة لأجيال وأجيال.