طغى انفجار الوضع في غزة على كثير من اللقاءات والمؤتمرات الإقليمية التي شاركت تركيا في إعدادها وتنظيمها في الأسابيع الأخيرة، بطابع سياسي واقتصادي وبالتنسيق مع العديد من الدول والمنظمات الفاعلة في المنطقة. “قمة جنوبي القوقاز للتعاون والسلام” التي عقدت في طهران قبل أسبوعين هي إحدى الفعاليات التي لم تحظ بالأهمية الإعلامية والنقاشات السياسية والأكاديمية التي تستحقها.
فبعد اجتماعها التحضيري في كانون الأول 2021 في موسكو، عقدت منصة التعاون الإقليمي لجنوبي القوقاز أو ما سمي بطاولة 3+3 والتي تجمع روسيا وتركيا وإيران إلى جانب أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، اجتماعها الثاني في العاصمة الإيرانية على مستوى وزراء الخارجية. الطاولة رتبت وللمرة الثانية بشكل خماسي بسبب غياب جورجيا التي أعلنت أنها لم تتعهد في المشاركة بمنصة من هذا النوع أو أن تكون طرفا فيها. تبليسي ما زالت على خلاف مع موسكو بسبب أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
تعود جذور فكرة المنصة السداسية للرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأذربيجاني إلهام علييف، إلى ما قبل 3 أعوام بعد معركة قره باغ الأولى بهدف البحث عن فرص بناء السلم والاستقرار بين دول جنوبي القوقاز الثلاث، بمشاركة ودعم تركي وروسي وإيراني، ويكون مقدمة لفتح الطريق أمام تنسيق وتعاون متعدد الجوانب يقرب أكثر بين هذه الدول. قد تكون المبادرة بحد ذاتها خطوة استراتيجية إيجابية على طريق التهدئة في القوقاز وللتقريب بين الدول الست، لكن هناك أكثر من عقبة وحاجز يعترضان طريق التكتل الجديد وحلمه في الوصول إلى ما يريد:
– هناك أولا مشكلة العلاقة بين الدول الأعضاء نفسها. فمن دون اتفاقية سلام نهائي بين باكو ويريفان وصلح أذري إيراني وتفاهمات تركية إيرانية وحسم مسألة النفوذ الروسي في جورجيا وأرمينيا، سيكون من الصعب توحيد مصالح هذه الدول ووضعها في سلة تفاهمات مشتركة.
– هناك ثانيا عقبة تبديد قلق ثنائي متبادل بين الدول الست أصلا. قلق تركيا وأذربيجان من وجود طهران أمام منصة من التناقضات السياسية والأمنية. وقلق آخر بسبب إغضاب رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان للكرملين بعد أيام فقط من قمة طهران، من خلال تصريحات لا تراعي مصالح روسيا في أرمينيا وجنوبي القوقاز. “نأمل توقيع اتفاقية سلام مع أذربيجان في الأشهر المقبلة وتنظيم علاقاتنا الدبلوماسية مع أنقرة. لا ضرورة لبقاء القواعد العسكرية الروسية في أرمينيا وقناعتنا في يريفان اليوم هي حول ضرورة تنويع علاقاتنا في المجال الأمني، ونحن نحاول القيام بذلك الآن”. كانت موسكو تعاني من مشكلة شكل وحجم التقارب التركي الأرمني بعد انتهاء أزمة قره باغ لكنها هذه المرة تعاني من مشكلة انفتاح يريفان على الغرب بعد خيبة أملها في الرهان على موسكو لتعطيها ما تريد.
– وهناك ثالثا مشكلة حسابات جورجيا ومن يقف إلى جانبها في مواجهة النفوذ الروسي بعد حرب عام 2008، وربط إقليم نهشفان بممر زنغزور مقابل ممر لاشين بهدف إرضاء طهران وأنقرة ويريفان وباكو دفعة واحدة. هل تبخر حلم جورجيا باسترداد ما خسرته لصالح موسكو قبل 15 عاما في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا؟
– وهناك رابعا مصالح وحسابات الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في المنطقة. لاعبون آخرون يريدون حماية مصالحهم ونفوذهم في المنطقة مثل أميركا وإسرائيل والصين وبعض الدول الأوروبية، وهم لن يرضوا أن يكونوا في موقع المتفرج حتما في بقعة جغرافية تتقاطع فيها خطوط أنابيب النفط والغاز والتجارة.
هل ستتخلى أميركا عن مصالحها في جنوبي القوقاز حيث تبحث عن فرص إمساك بالورقة الأرمنية هناك وفرض مصالحها على أي طاولة حوار وتفاهمات تبعد الخطر عن أنابيب النفط والغاز الاستراتيجية في المنطقة وتحفظ أمن الطاقة وإمكاناتها التجارية، عبر ترسيخ علاقاتها مع أذربيجان وجورجيا؟
هذا إلى جانب القلق الإيراني الأرميني المشترك بعد التحولات الأخيرة في حرب قره باغ، واسترداد باكو هيمنتها على مناطق حدودية مع إيران كانت تحتلها القوات الأرمينية، وحيث أصبح التواصل الجعرافي الإيراني الأرميني مهددا وبدأت طهران تشعر بخطورة الطوق الجغرافي العسكري الذي يحاصرها والذي كان وما زال لإسرائيل حصتها فيه. القراءة المعكوسة للمعادلة تحمل معها تساؤل كيف ستتعامل تل أبيب مع منصة تجمع حليفها الأذربيجاني وخصمها الإيراني؟
من سيعرقل معادلة ممر زنغزور مقابل ممر لاشين الذي تريده أنقرة وباكو قد يكون اللاعب الأميركي والإسرائيلي لأنه سيخدم مصالح طهران وموسكو على حساب نفوذهما هناك، ويضر بخطط واشنطن التي تراهن على باكو وتبليسي بهذه الخصوص.
كل طرف له حساباته الخاصة به في القوقاز. التطبيع بين باكو ويريفان قد يتحول إلى ساحة خلط أوراق واسعة ويفتح الأبواب أمام تفاهمات كبيرة أو أزمات أكبر.
ما ستقوله وتفعله موسكو حيال سلوك أرمينيا الجديد ومغازلتها للغرب لن يمر بسهولة. وطهران أيضا لن تسكت على مواصلة باكو لتحسين علاقاتها بتل أبيب. قد يشرف أحد الصراعات المزمنة في جنوبي القوقاز على نهايته، لكنه قد يقود إلى فتح علبة الباندورا في القوقاز بكامله.
اتسعت رقعة النقاشات والسيناريوهات المرتبطة بخطوط نقل الطاقة والتبادل التجاري في الآونة الأخيرة. النظام في دمشق يناور بما يستطيع أن يقدمه من خدمات بهذا الاتجاه لإرضاء طهران وإبقائها إلى جانبه رغم التعقيدات العسكرية والأمنية الإقليمية المحتملة على جبهات سورية لبنانية بعد انفجار الوضع في غزة. ما هي العلاقة التي يتحدث عنها البعض بين تطورات الوضع في جنوبي القوقاز والإشارة إلى مقايضة جديدة ترضي طهران عبر إعادة إحياء خط أنابيب النفط العراقي – السوري وربط كركوك العراقية ببانياس السوري على المتوسط بتمويل ومشاركة إيرانية تكون مقدمة لنقل الغاز الإيراني عبر خط مواز يوصلها إلى سواحل شرقي المتوسط؟
بدأت أنقرة باكرا تحركات التواصل السياسي والدبلوماسي مع جورجيا. استقبل الرئيس التركي قبل أيام نظيره الجورجي. وتوجه وزير الدفاع التركي إلى تبليسي في إطار الجهود التي تبذلها أنقرة على خط روسيا – جورجيا للتهدئة والتقريب بين البلدين وإزالة التوتر. الهدف التركي هو إقناعها بحضور اللقاء الثالث للمنصة المقرر عقده في أنقرة.
آلية جنوبي القوقاز منظومة سداسية ترى تركيا فيها فرصة لتوجيه أكثر من رسالة لأكثر من طرف: إظهار أن دول دول جنوبي القوقاز قادرة على حل مشكلاتها فيما بينها من خلال الحوار. وأن السلام بين باكو ويريفان قادر على تسهيل كثير من الحوارات المجمدة بين دول المنطقة. وأن الفرص والثروات الاقتصادية التي تملكها هذه الدول ستسرع أكثر فأكثر جهود المصالحة والتطبيع. لكن الرهان على احتمال أن تفتح نهاية الحرب في قره باغ بوابة التفاهمات والتنسيق الاستراتيجي بين الدول الفاعلة في جنوبي القوقاز لن يكون سهلا. فالمشكلة الأبرز هي التقريب بين مواقف ومتطلبات هذه الدول وتأمين الأجواء التي تساعد في وقت قريب على إنجاز اختراق يقود إلى تفاهمات سياسية واقتصادية حقيقية.
تحتاج منصة 3+3 إلى اجتراح المعجزات حقا لتسجيل اختراق سياسي اقتصادي أمني في العلاقة بين الدول المفترض أنها ستوجد أمام الطاولة.