صياد يمسك بصقر اصطاده

صياد يمسك بصقر اصطاده
 تشتهر مناطق البادية السورية من حمص إلى حدود العراق شرقاً، ومن شرق السويداء جنوباً إلى ريف حلب شمالاً، بمهنة تاريخية متوارثة يتقنها الأهالي هناك وهي اصطياد “الطائر الحر” الذي يمرّ فوق سوريا موسمياً.
الطائر الحر هو الاسم العربي لصقر الغزال أو الصقر الشروقي، وهو أحد أنواع الصقر النادر الوجود النسبي والكبير الحجم، والذي يستوطن عموماً بعض المناطق من شرق أوروبا وحتى الصين على امتداد عرضي شبه متجانس.
يستخدم هذا الطائر دول الشرق الأوسط كممر خلال هجرته الموسمية نحو إثيوبيا والسعودية، وتنبع أهميته في المنطقة من خصوصيته الفريدة في القوة والندرة والقدرة على التعلم والتدرب على يد إنسان، والميل نحو تربيته واستخدامه في الصيد بقصد العمل أو الترفيه في المجتمعات الميّالة إلى هذا التوجه.
سوريا واحدةٌ من أكثر الدول التي يحتضن مجالها الجوي موجات هجرة ذلك الطائر، ما أتاح فرصةً واسعة لسكان البادية ليمتهنوا فنون صيده كعمل يؤمن لهم مورداً مالياً ضخماً، حيث يباع الطائر الواحد بمئات ملايين الليرات السورية (عشرات آلاف الدولارات).
يتم البيع عادةً عبر مزاد علني أو إلكتروني ليجري نقله لاحقاً إلى السعودية، وهي السوق المستهدف الذي ينشط عمل الصيادين في الإقليم، وهناك يتم شراؤه بمبالغ أعلى أيضاً.
بسبب ذلك وجد السوريون أنفسهم تاريخياً أصحاب مهنة القبض على الطائر النزق في رحلة طيرانه وصعوبة إمساكه. وقد بلغت القيمة الأعلى المسجلة لبيع صقر من سوريا إلى السعودية خلال العقد الماضي نحو مئة ألف دولار أميركي بحسب قول صيادين لـ”النهار العربي”.
مهمة صعبة
يقضي الصيادون أحياناً أشهراً متواصلة في مناطق البادية المكشوفة مطاردين أو منتظرين ذلك الطير، وأحياناً يقضي بعضهم سنوات عدة في الانتظار قبل أن يظفروا بطائر ثمنه سيغير حياتهم، هذا ما قاله الصياد جاسم عقبا من منطقة تدمر لـ”النهار العربي”.
جاسم اعتبر أنّ الانتظار يستحق، وأنّ تلك المهنة تتطلب من الشغف الكثير، وأضاف: “في موسم هجرة الحر لا نعطل كلّ أعمالنا كعائلة أو أفراد أو عشيرة مثلاً، إنما نتقاسمها، البعض يأخذ باله من الأرزاق والأغنام، وآخرون يرتحلون بحثاً عن الطائر، هذه ليست مهنة نتعلمها في بوادينا، هذه مهنة نتوارثها عن آباء وأجداد”.
“صيد الطائر الحر لا يقتصر على أهمية ثمنه، بل على شرف اصطياده أيضاً، فمصطاد الطائر يحظى بتقدير واهتمام من العشائر، لأنّ التعامل مع هذا الطائر الغاضب معقد جداً، لك أن تتخيل أنّه يمكن أن يجرح أو يؤذي أو يقتل نفسه في الأسر إذا لم تحسن التعامل معه فوراً وتغرق أجنحته بالماء وتغمض عينيه نهائياً حتى لحظة مبيعه، الأمر يتم في لحظات”، شرح جاسم.
ضوابط وأعراف
يخبر الصياد أبو ميسر “النهار العربي” أنّ الفترة الأبرز لصيد الطير الحر تبدأ من أيلول وتستمر حتى كانون الأول (ديسمبر) من كل عام، وأنّ واحداً من أهم شروطها أن يكون الصيد في مناطق مفتوحة تماماً وبعيدة من القرى والمنازل، مؤكداً أنّ مناطق متعددة في البادية تعج بمئات الصيادين والسيارات والخيام في كل موسم.
ويضيف: “تسمى مناطق الصيد بـ(المقناص)، ويشارك أصحاب الدراجات النارية في عمليات الصيد أحياناً، هي ليست حكراً على أحد لكنّ لها ضوابط وأعرافاً معمولاً بها، وأبرزها احترام مساحة صيد الآخر، وفي الوقت نفسه تقاسم سعر الطريدة حين الإمساك الجماعي بها بشكل أو بآخر”.
ويبيّن أبو ميسر أنّ طرق اصطياد الحر متنوعة بين استخدام فريسة تكون طائر حمام يحمل شبكاً في العادة، أو استخدام الباشق في حالات معينة، وصولاً إلى استخدام قفص أرضي (فخ) يحمل خطافات تغلق على الطائر الهدف حين نزوله إلى الفخّ بقصد الارتياح أو تناول الطعام من دون أن تلحق الأذى به.
أفضل مهنة
أبو فرحان هو صيّاد آخر من منطقة الفرقلس شرق حمص، يشرح بإعجاب عن الطائر الحر مبيناً قوته الفريدة وامتلاكه صفات الشجاعة والجرأة والتحدي والجموح، فضلاً عن قدرة هائلة على المراوغة والابتعاد تبعاً لذكائه الفطري في التعامل مع المخاطر.
يقول: “في منطقتنا صيادون كثر، وتختلف مراتب الصيادين، هناك من هم مخضرمون ويحسب لهم ألف حساب، وهناك هواة، يفلحون حيناً ويفشلون حيناً، ولكنّ الأكيد أن أولئك المخضرمين لا يعودون عادةً من دون صيدهم”.
ويتابع: “يميل الناس من محترفي الصيد إلى التخلي عن المهام الأخرى، ومن بينها إتمام الدراسة مثلاً، فاصطياد حرٍّ واحد في الموسم، أو كلّ بضعة مواسم، سيعود بدخل وأرباح لا يحققها أصحاب شركات”.
 
سعر الطائر بناءً على سلامته
حتى هذه الأيام وقبل شهر واحد من انتهاء موسم الصيد لهذا العام، لم يجر اصطياد إلا نحو 10 طيور في عموم سوريا، وهو رقم قليل قياساً بسنوات أخرى، واحد من أولئك الطيور العشر بيع بنحو 15 ألف دولار في حمص لتاجر محلي سيتولى نقله إلى السعودية.
يعتبر ذلك الرقم زهيداً لأسباب متعددة، بينها حجم الطائر الصغير، مع الأخذ بالاعتبار حالته الصحية فيما إذا كان مريضاً أو مجروحاً أو يعاني كسوراً في الساق أو الأجنحة، فيما تصل أسعار طيور سليمة أخرى إلى أضعاف ذلك الرقم وتباع لاحقاً إلى السعودية أيضاً بمبالغ أكبر عبر وسطاء تلك مهنتهم، ويجري نقلها تهريباً بطبيعة الحال.
مخاطر أمنية
يشير صقّارون تواصل معهم “النهار العربي” إلى أنّ الأزمة السورية أثرت كثيراً على عملهم، مبينين أنّ اتساع رقعة العمليات العسكرية أدى إلى اقتصار عملهم على جيوب ضيقة نسبياً في البادية خشيةً من أي عمليات أمنية.
يخبر أحد الصيادين “النهار العربي” أنّ أفراداً من قبيلته لقوا حتفهم في محيط تدمر قبل أعوام خلال تجهزهم لاصطياد الطيور إثر هجمة من أفراد يتبعون لتنظيم “داعش” أحدثوا مجزرة جماعية يومها بأولئك الصيادين، فضلاً عن مضايقات تعرض لها صيادون آخرون في مناطق تسيطر عليها “قوات سوريا الديموقراطية” العام الفائت، ومن جهات أخرى فاعلة في الحرب السورية. مع الأخذ بالاعتبار أنّ تنظيم “داعش” وتنظيمات مسلحة أخرى كانت تسيطر على زهاء 70 في المئة من مساحة سوريا قرابة أواسط الحرب في عام 2015.
ويتحدّث الصيادون عن مهنتهم تلك بشغف، فاصطياد أنواع عنيدة كتلك الطيور سيحمل لمصطادها إحساساً بالانتصار المعنوي، ومن هنا يبدأ الأثر النفسي حيال عشائر تقوم في جينتها التركيبية على القضايا المتعلقة بالأنساب والفخار وإنجاز الصعوبات.