هكذا كان اسمه، اسم غريب ومراوغ
منذ فتحت عيني على الدنيا كان اسمه باب الطراء
باب خشبي عتيق، ثقيل وعريض، يُحدث صريرا كلما هزته الريح
هذا الباب، هذا الصرير، هذه التكتكة المستفزة، هذا الإسم الغريب المراوغ ، هو المكان الذي شكل وعيّ الأول، ذائقتي وحكاياتي وإشراقة خيالي، وأنا أقطع بخطى سريعة ومرتبكة، المسافة التي حسبتها طويلة، لأغدو في عالم الكبار.تركت طفولتي ورائي، ترقد في حرز غمام غائم،أرحل الى أمكنة بلا أبواب موصدة، مريحةو مضيئة، يداهمني الذعر ألا أُمنح مكانا فيها، بأبعاد كامل
كنت وأنا أسرع الخطى نحو فضائي الواسع،أنتمي وأنحاز بقوة للحياة، لكن لم أستطع أبدًا أن أتخلص من طغيان المكان الأول،فعلى ضفة القلب، تربع سحره الخاص، علامات فارقة الإيقاع، التحدي الأول، الخطر البريء، الضحك والنحيب، الخطى الهامسة المترددة، الخيالات المبهمة، صوت الليل،حفيف الريح، الكائنات النورانية ، الذكريات التي دفنت دون ان تموت
كثيرا ماوقعت تحت تأثير نوستالجيا غامضة، عصف مباغت، انجذاب كلي لإلفة المكان الأول، حلم طويل ،أتوغل في تلك الأمكنة الخبيئة، مطوقة بما يشبه اللحن أو الشعر أوالحلم، تضج من خلاله الوجوه الأليفة، طرية ومشاغبة، تمنح الكثير من الحقيقة ، لخيالات عاطفية تشكلت على مهل، وأنا منخرطة في هناءة طفولة لامبالية. أنصت بدهشة لذاك الصرير الذي يصدره باب خشبي عتيق،يُفتح على الداخل والخارج، أدفعه قليلا، أواجه جنينة خلفية واسعة، محمية بسياح من شجر كثيف، تسمق ذؤاباته عاليا في الفضاء، تحدث حفيفا مموسقا كلما تمايلت مع النسيم، ،تسرح وتمرح في وسطها، أشجار الرمان والاجاص والتين والجوز، وخمائل العنب، وكثيرمن الخوف !
أجل الخوف …
ففي ليالي الشتاء المقمرة،وحين كان صوت الريح يزمجر غاضبا، يتناهى إلى سمعي في مرقدي الدافىء ، صوت باب الطراء ، يصرّ وئيداً وئيداً، إلى الأمام والخلف، بإيقاع رتيب
يأتني صوت أخي هامساً في اذني ، محذراً:
انصتي، انصتي ! الجن غاضبون، يعزفون نشيدهم الخاص، يرقصون رقصة الليل!
كنت أرتعد خوفا، أغطي وجهي باللحاف الثقيل، وأحاول أن أغمض عينيّ لأنام،ولم أكن أنام
وفي ليالي الصيف، حين يسكن صوت الريح، يتناهى لي صوت باب الطراء،يصرّ خافتاً، غامضاً، متوتراً، أضع رأسي على وسادتي، تتراءى لي حكايات معجونة بأنفاس الساحرات، كائنات نورانية، تسرح وتمرح في أرجاء الجنينة الواسعة، من خلف جذوع الشجر ، حكايا يحيكها عقلي الصغير بلغة التحدي والخوف
نعم تحد! ايه يا لتلك الحكايات
تورطت مرة في تحدي مخيف، استفزتني سخرية ابناء العمومة، في أن أعبر الجنينة في منتصف الليل
كنت في نوسان مدهش مابين الخوف المشحون بالتوتر والقلق، والرغبة في ولوح بوابة التجربة، والتورط في مغامرة عجيبة مع أشباح الليل
وفي ليل أسود الجناحين، فتحت باب الطراء، على تأن، صرّ خافتا ومحذرا ، الليل ساكن ، والشجر سامق في الفضاء، انطلقت أعدو مغمضة العينين، حافية القدمين، لاألوي على شيء، تستوقفني أشباح وخيالات، ترمقني عيون الجنيات الراعشة من ثنايا جذوع الشجر ، تلامسني أذرعها الطويلة، يشهق في أذني نحيبها المفجع، أقطع مساحة الجنينة الكبيرة، في دقائق تبدو طويلة كدهر، أتعثر وأقع وأقف، أتجاهل خدوشي ودموعي، وضحكات اخوتي وأبناء عمي، وغضب أمي
أنتشي بمغامرتي، كانت انتصاري الأول.
هل من الممكن تحييد هذه الصور، منحها صفة اللامبالاة
… سيبدو هذا على التأكيد، ناقصاً وغير مكتمل
حين يجتاح هذا المشهد الهني، صور كابوسية، وجوه حيادية، وأكثر الأحيان عدائية،في مكان جديد، معادي وغاضب، أنت فيه مخذول ومنفي وغريب، يسيطر عليك شعور مستمر وعميق، أنك وحيد ومدان بذنب لم تقترفه، يتوجب عليك أن تقدم صك براءتك
دائما
مشهد يصدمك بقدرته على معاكستك على الدوام، يستلب منك لذة الاستجابة لذاك الدفء العصي،أن يمنح نفسه بسخاء، لاستعادة حلاوة الاستماع الى موسيقى، يعزفها باب طراء عتيق، ينفتح على الأمام والخلف. بصرير مجروح بالتخيلات، كان يصفق في سماء ليل حر