من يطلع على أعمالطه حسين الإبداعية يلاحظ أن كثيراً من أبطاله يقدمون علىالنتخار . تلك الفكرة أقدم على تنفيذها وهو صغير كما يذكر في كتابه “الأيام”، وراودته في كبره، كما ينقل ابنه مؤنس وسكرتيره الأخير محمد دسوقي. وانعكست تلك الروية على إبداع العميد، فهي دائماً ما تجول في ذهنه، وإن لم يستطع تنفيذها في الواقع لأسباب مختلفة، فإنه أسقطها على أبطال قصصه.
وجاءت محاولة طه حسين الأولى للانتحار كما يحكي هو في الفصل الـ10 من “الأيام” عندما فشل في حفظ بعض سور القرآن، فيقول “خرج صاحبنا من المنظرة منكس الرأس مضطرباً يتعثر، ومضى في طريقه حتى وصل إلى الكرار —والكرار: حجرة في البيت كانت تدخر فيها ألواناً من الطعام، وكان يربى فيها الحمام— وكانت في زاوية من زواياها القرمة —وهي قطعة ضخمة عريضة من الخشب كأنها جذع شجرة— كانت أمه تقطع عليها اللحم، وكانت تدع على هذه القرمة طائفة من السكاكين، منها الطويل، ومنها القصير، ومنها الثقيل ومنها الخفيف. مضى صاحبنا حتى وصل إلى الكرار، وانعطف إلى الزاوية التي فيها القرمة، وأهوى إلى الساطور، وهو أغلظ ما كان عليها من سكين وأحده وأثقله، فأخذه بيمناه وأهوى به إلى قفاه ضرباً! ثم صاح، وسقط الساطور من يديه، وأسرعت أمه إليه، وكانت قريبة منه لم تحفل به حينما مر بها، فإذا هو واقف يضطرب والدم يسيل من قفاه! والساطور ملقى إلى جانبه. وما أسرع ما ألقت أمه نظرة إلى الجرح!
وما أسرع ما عرفت أنه ليس شيئاً! وما هي إلا أن انهالت عليه شتماً وتأنيباً، ثم جذبته من إحدى يديه حتى انتهت به إلى زاوية من زوايا المطبخ، فألقته فيها إلقاء، وانصرفت إلى عملها. ولبث صاحبنا في مكانه لا يتحرك ولا يتكلم ولا يبكي ولا يفكر كأنه لا شيء، وإخوته وأخواته من حوله يضطربون ويلعبون، لا يحفلون به ولا يلتفت هو إليهم”. وتكشف رد فعل والدته على هذه الواقعة بأنها لم تر فعلته انتحاراً بقدر ما هو عبث صبي بآلة حادة فجرح نفسه لذا عنفته وفي المساء استدعاه أبوه صحبة الشيخ ليومه، لا على انتحاره وإنما لنسيانه ما حفظ من القرآن الكريم”.
آلام مبرحة
وينقل الدكتور عمار علي حسن في كتابه “بصيرة حاضرة” نقلاً عن كتاب محمد الدسوقي “أيام مع طه حسين” أنه في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 1970 فكر العميد في قتل نفسه إذ قال بعدما تدهورت حالته الصحية: “لقد أصبحت الحياة بالنسبة إلي عذاباً، لو أني أستطيع الانتحار لانتحرت”. ويسرد طه حسين الأسباب التي تدفعه للتفكير في الانتحار كما قال لسكرتيره: “إنني أعاني من آلام الأمعاء التي لا تكاد تنقطع، وكذلك آلام البرد، فضلاً عن متاعب البيت، فأنا أرهق زوجتي معي، ولا أستطيع أن أرضيها في الأكل والحركة، فتثور وتبكي أحياناً، وتخاصمني أحياناً”. وعدم استطاعة طه حسين الانتحار هنا كما يفسرها عمار علي حسن يرتبط بعقيدته الدينية، وطبيعة شخصيته التي ترفض الاستسلام، وكذلك صورته العامة التي كان مثل هذا التصرف سيخصم منها الكثير في مجتمع شرقي.
ويحكي مؤنس طه حسين: “كان أبي مغرقاً في التشاؤم، وإدراك ذلك سهل يسير، كانت تنتابه أطوار من القنوط، وصفها في كتاب (الأيام)، لقد حدثته نفسه بالانتحار أحياناً. كانت تنتابه حالات يأس لا قبل لأحد بأن يكون له فيها عوناً. ولا حتى زوجه كانت قادرة على ذلك، مع ما أوتيت من رفق وحنان. كان ينظر إلى الأشياء، دائماً نظرة سلبية، هذا من غريب الأمور، لا سيما ونحن نعلم أنه رجل على غاية النشاط”. هذه الحالة تحكي عنها زوجته سوزان: “كان أحياناً يحبس نفسه وراء صمت شرس مخيف، كما لو أنه سقط في أعماق حفرة لا يستطيع أي شيء على الإطلاق أن ينتزعه منها”.
في إبداعه
وإذا تتبعنا هذا الجانب من شخصية طه حسين فنجده ينعكس على كثير من أبطال قصصه، فما إن يسد الأفق أمام واحد منهم فإنه ينهي حياته بالانتحار بأن يلقي بنفسه في النيل أو تحت عجلات القطار. مجموعته القصصية “الحب الضائع” 1938م تركز معظم قصصها على تيمة الحب وأغلب أبطال هذه القصص سيدات فرنسيات تنتهي حياة كل منهن بالانتحار. ففي قصة “الحب الضائع” أطول قصص المجموعة التي تحولت إلى فيلم بالاسم ذاته، يأتي السرد على لسان امرأة فرنسية ويرصد فيها مشاعر المرأة المتقلبة تجاه ما تمر به من تجارب في الحياة من محبة صادقة لزوجها ثم ابنها ثم خيانة زوجها مع أقرب صديقاتها. يتقمص طه حسين في هذه القصة ما يمكن أن يدور في داخل المرأة من مشاعر تجاه هذه المواقف. وتنتهي هذه القصة بانتحار السيدتين.
وتحفل مجموعته القصصية “المعذبون في الأرض” بمجموعة من الشخصيات التي تنهي حياتها بالانتحار. ففي قصة “قاسم” نحن أمام أسرة فقيرة يعولها “قاسم” الذي جعل من الصيد زرقه لكن صحته العليلة لا تساعده على الدوام في العمل ولم ينجب إلا بنتاً واحدة تدعى “سكينة”، عمرها 17 عاماً وتتمتع بقدر كبير من الجمال. يعيش الأب والأم والابنة حياة فقر مدقع. ومن هنا يتمكن زوج عمة البنت من أن يغريها ويمارس الفاحشة معها، وما إن يعرف والدها حتى يقدم على الانتحار.
وفي قصة “خديجة” نحن أمام فتاة تجبر على الزواج ممن لا تحب. يتقدم إليها خاطب فترفضه لكن لا تستطيع الإمعان في الرفض من دون سبب حتى لا يشك الأهل في عفتها: “هي تمتنع وتلح في الامتناع حتى تثير الريبة في نفس أبويها، فما ينبغي أن تصر على هذا الإباء إلا أن تكون قد قصرت في ذات نفسها، وفرطت فيما للشرف على الفتاة من حق” لتنهي حياتها في النيل بعد أن ثبت لجميع أن عفتها لم تمس. وفي قصة “صفاء” ينتحر الحبيب تحت عجلات القطار في يوم زفاف حبيبته، التي تجبر على الزواج من زميل لأخيها في العمل.
ويروي في قصة “المعتزلة” مأساة تلك المرأة التي منعت ولديها اللذين يعملان في مجال البناء، وابنتها “سعدى” عن الاختلاط بالناس إلا للضرورة، ثم يأتي الوباء فيخطف الابنين فتقرر الأم أن تنتحر وهي ابنتها في النيل إلا أن الناس ينجحون في إنقاذ البنت التي سرعان ما ستقع في براثن رجل بلا قلب فتجمل منه سفاحاً، ويتنكر لها الجميع، تاركين إياها لمواجهة مصير يفضلون عليه الموت انتحاراً.