أين نجد لوركا الشاعر؟ في مسرحه أم في قصائده أم في أناشيده وموشّحاته؟ لكن من الصعب التفريق بين لوركا الكاتب (والمُخرج) المسرحي، فهو في النوعين واحد، تختلط فيهما اللغات والصُّور والمناخات لتكون في مجملها فضاءات شعريّة في المسرح وفضاءات مسرحيّة دراميّة في الشِّعر. منذ أوّل نصّ له، وكان أقرب إلى الحوار منه إلى الصيغة الدراميّة المركّبة وهو “فانتازيا رمزيّة” (1917)، بدا هذا التداخل واضحا: شِعر أحيانا درامي، ومسرح دائما شِعري، لكن ما يطغى عموما غنائيّة قوية لا تُجافي الواقع أو تهرب منه بقدر ما تنغرز في المشاعر الإنسانيّة العميقة، وفي التمزّقات التي تدرك الإنسان في صراعاته الاجتماعيّة وفي تطلّعاته وانكساراته وخيباته وميوله. فالغنائيّة ليست “وسيلة” انفصال عن المادة الاجتماعيّة واليوميّة، بقدر ما هي موظفة في خدمة الدراميّة، وتاليا في خدمة الإنسان عموما.
وهذا ما يجعل مسرحه ملتزما بالمعنى النبيل والسخي. من هنا يمكن الكلام على تلازم المسرح الشِعري والمسرح الشعبي. وهذا ما قاله تحديدا عام 1935 “المسرح، مسرح في تقديمه الانفعالات والأوجاع وفواجع العصر”. إنّها الغنائيّة الدراميّة في تعبيرها الاجتماعي النافذ. أو فلنقل في فعلها الاجتماعي. أي في دورها. وضمن هذا الإطار جاب لوركا إسبانيا في مسرح جامعي جوّال “لابراكا” ليُعرف بالمسرح الإسباني الكلاسيكي في محاولة اتصال مباشر بالجمهور. ومن الصعب الكلام على مسرح لوركا من دون الكلام على مسرح “لابراكا” الذي أداره بين 1932 و1935 حيث قدَّم أعمالا لكالديرون ولوبي دي فيغا وسرفانتس وترسو دي مولينا. وإذا كان هدف لوركا تعريف الناس بكلاسيكيّات الدراما الإسبانيّة، فإنّه استفاد كثيرا من هذه التجارب في تطوير تجربته، ولغته ونبرته، من حيث ربطها بالمتن الموروث والامتداد التاريخي المتجذر.
لم يكن لوركا مجرّد كاتب مسرحي، بل إنّه نموذج الفنان الشامل الذي يتمتّع بموهبة موسيقيّة وشعريّة وعلى اطلاع الواسع على فنون الرقص والحركة والإيقاعات الشعبيّة الخاصة
لكن لوركا لم يكن مجرّد كاتب مسرحي، بل إنّه نموذج الفنان الشامل الذي يتمتّع بموهبة موسيقيّة وشعريّة وعلى اطلاع الواسع على فنون الرقص والحركة والإيقاعات الشعبيّة الخاصة. وإذا كان قدَّم بين 1919 و1920: أعمالا منها “من الحب” و”ظلال” ولم تلقَ نجاحا، إلّا أنّ هذه الأعمال تحمل بذور كلّ أعماله اللاحقة: ازدواجيّة الاجتماعي والديني. وهذا ما تجسّد في مسرحيّة “ماريا بينيوا” التي قدّمت عام 1927، وقطفت نجاحا كبيرا، في هزليّة قُدّمت عام 1933 فكانت النجاح الأكبر له. وكأنّ لوركا أراد أن يستغلّ هذا النجاح ليخوض في مواضيع اجتماعية حسّاسة فكتب مسرحية “الجمهور” التي استحال تقديمها آنئذٍ، فعادَ إلى النفَسْ الكلاسيكي في “أعراس الدم” (1933)، و”يرما” (1934)، اللتين مزج فيهما النّثر والشِّعر الموقّع، وكذلك الواقعيّة والفانتازيا، في محاولة سبر الظواهر الاجتماعية السائدة بحسٍّ طبيعي متقدّم، ممّا أثار حفيظة “النقد” المحافظ الذي رأى في المسرحيّتين تشجيعا على “الفساد” والتمرد والخطيئة، ودعوة إلى الخروج على التقاليد لا سيّما وأنّ المسرحيّتين محورهما الأساسي المرأة… والكبت والقمع والبؤس التي تتعرّض لها. كلّ ذلك بحسٍّ فاجع ينبش عميقا في دواخل النفوس وتناقضاتها والغرائز والرغبات والميول والأهواء التي تمضي أحيانا إلى أقصى احتمالاتها ومساحاتها.
وفي 1936 عندما أعدمه الفرانكويون كان لوركا أنهى إحدى أنضج مسرحياته “بيت برناردا آلبا” التي لم تُقدّم إلّا عام 1945 في بوينس آيرس، وكانت سبقتها مسرحيّة “لغة الزهرة” قدمت عام 1935 في برشلونة وكانت تتويجا لنجاح لا مثيل له، بل كانت النجاح الأخير للوركا في حياته.
وإذا استعرضنا تطوّر باعه في المسرح بتنوّعاته نجد أنّه منذ البداية اتّسمت أعماله بالغنائيّة: مثل “العرائس”، وحاول تثبيت حضوره بعض عرض “ماريانا بينيدا”، ثم “العرس الدامي”، و”روزيتا”، و”يرما”، و”بيت برناردا ألبا”.
ففي مسرحيّته الأولى “الفراشة” تنصهر لديه الرومانسيّة، كتبها أثناء دخوله الفضاء الرمزي، وبعد قصائد تتناول الحيوانات والحشرات. وإلى الكثافة المشدودة خصوصا عندما يعرض حياة الغجر، فكأنّ عمله الدرامي تطوّر بمحاذاة شِعره في الأسلوب والمزاوجة، بين الخاص والشعبي. بعد عدة أعوام من مسرحية “الفراشة” بدأ لوركا سيرته المسرحيّة الفعليّة، بـ”ماريانا بينيدا” المستوحاة من الطابع الشعبي حيث صَهَرَ الرومانسيّة بالعناصر الكلاسيكيّة، وقاده ذلك إلى اتجاه آخر. ووصل بهذه الثنائيّات إلى جوهر الدرامي. وعلى الرغم من فقدان هذا العمل الأبعاد المسرحيّة فقد خرج في صورة ثابتة وحوار نقدي يجري بين بوروسا وماريانا.
في المسرحية توليفات غنائيّة سواء خدمت العمل أم لم تخدمه.. قد افتقرت المسرحيّة إلى النضج في محاولة تقنية جديدة؛ لكن إلى ذلك أظهر لوركا الحسّ التراجيدي والذائقة الجماليّة.
بعد هذه المسرحية ثلاث مسرحيات قصيرة “ماريانا بينيدا”، تجلّت أكثر قوّة في المعالجة الفنّية، بحسها الساخر. وكتَبَ ثلاث مسرحيّات الأولى بين 1929 و1931، وهي غرام بركسيلي بيسبا، في شبابه، وهي الأكثر غنائيّة، ثم “الأسابنة” التي تتميّز بالسِّحر الفلكلوري وآخرها مسرحيّة “دون كريستوبال” الهزليّة التي قدّمت للمرة الأولى في المسرح الإسباني عام 1932.
لكن لوركا تجاوز نسبيّا “الغنائيّة” فكتب مسرحيّة “الجمهور” بحضور واضح للسرياليّة، من خلال الجوّ الابهامي، بمسحة حسّيّة لشخصيّات خياليّة.
أعمال لوركا لم تترهّل ولم تشحب ولم تهرم، ولا تزال تنضر على الخشبات وفي الكتب وعلى الشّفاه. ولعلَّ قوّة رؤيتها الشعريّة واتّساع هذه الرؤية وشفافيّتها الإنسانيّة، ورهافة لغتها، ولوعتها، ونفاذها، هي التي ترفدها بهذه الحيويّة الموصولة
وجاءت مسرحيّات “العرس الدامي”، و”بكائيّة المصارع” و”يرما” لتؤرّخ مرحلة النضج جنبا إلى جنب مع أفضل أعماله الشعريّة “رومانسيرو جينانو”، و”الغناء العميق”، فجاءت مصقولة، مشغولة، وبسيطة نافذة. عُرضت “العرس الدامي” للمرة الأولى في مدريد عام 1933 تجلّى فيها التعبير المناسب متجاوزا الكثافة، بتعميق “النبرة”. وقد تخطى عرض هذا العمل المئة.
ولم يبتعد لوركا عن تأثيراته الشتى: فقد تأثّر ببيتس وإليوت وكتَبَ المسرح الشِّعري على طريقتهما. ومن ناحية أخرى اعتمد على مناخات ذات مسحة أسطوريّة استلهمها من المصادر الشعبيّة المعروفة باسم “بالاد”. يقول الناقد روبرتو سانشيز في كتابه عنه: “لوركا عبقريّة مسرحيّة أكثر منه موهبة دراميّة خالصة، فهو على سبيل المثال يمتلك الدافع الأخلاقي والفكري للمسرحي أبسن، وهو يتعامل مع المشاهد أو القضايا المناصرة، ويعثر عادة على المفتاح إلى المسرحيّة في الرسم أو بالموسيقى أو الشِّعر أو المسرح نفسه”. يضيف: “يبهرنا التأثير الشِّعري في مسرحه بانتقاله من مشهد إلى آخر، وكذلك الحساسيّة الشِّعريّة في تسلسل الأحداث في أعماله…”.
بعد نحو عقود من كتابة أعمال لوركا، إذا أخذنا الأبرز والأنضج منها، نكتشف أنّها لم تترهّل ولم تشحب ولم تهرم، ولا تزال تنضر على الخشبات وفي الكتب وعلى الشّفاه. ولعلَّ قوّة رؤيتها الشعريّة (وهي مسرح شعِري بامتياز)، واتّساع هذه الرؤية وشفافيّتها الإنسانيّة، ورهافة لغتها، ولوعتها، ونفاذها، هي التي ترفدها بهذه الحيويّة الموصولة.