لو أن مشهد “العراضة المسلّحة” في عكار ومناطق أخرى من الشمال، ظهرت قبل عملية طوفان الأقصى، بل لو ظهر مسلحان فقط بدلاً من حوالى ألف مسلّح، ومن دون عراضة وإطلاق نار وقذائف في الهواء.. لكانت “اللعبة” الأمنية والإعلامية في لبنان اشتعلت بالكلام عن خلايا تنظيم داعش والتطرف السنّي والجماعات التكفيرية في الشمال. ولكانت نسجت روايات كثيرة ونظريات مؤامرة أكثر حول الشبكات الإرهابية والخلايا العنقودية التي تشكلها هذه الجماعات، والخطر العظيم من “استعادة” نشاطها في لبنان، وتوريطه في معارك جديدة وتفجيرات واغتيالات..إلخ.
“دفاعاً عن فلسطين”
لكن كل هذا لم يحصل. فالظرف تغيّر، ولا بد للدعاية أن تتغير. فالغاية الآن هي إظهار أن السنّة أصبحوا في جلباب حزب الله. لم يعد للتطرف مكان ولا لداعش ومخاطرها، ولم تعد هذه الفزاعة مدخلاً لتخويف المسيحيين وشد عصب الشيعة.
الغاية الآن مختلفة. إذ لا بد من إظهار مشهد مسلح موحد بين السنّة والشيعة، “دفاعاً عن فلسطين”، في ببنين عكار، أقصى شمال لبنان.
ويندرج ذلك في سياق بناء سردية جديدة حول “التلاحم” السني-الشيعي من جهة، والترويج بأن هناك جهات مسلّحة من طوائف مختلفة تتجاوز حتى “سرايا المقاومة”، وأن حزب الله لم يعد وحده صاحب السلاح.
وللمفارقة، يترافق هذا مع حملات إعلامية تتهم الآخرين، أي خصوم “المقاومة” (أو المقاومات المتكاثرة) بالسعي إلى “حرب أهلية”(!) وأنهم يعملون على التسلح.
والمقصود غالباً هو حزب القوات اللبنانية، المتهم الدائم من قبل حزب الله، وفق ما أعلنه أمين عام حزب الله مؤخراً بأن القوات والكتائب يريدان الحرب الأهلية.
الجماعة وبيانها
أمس، كان المطلوب نسب العراضة المسلحة إلى الجماعة الإسلامية، التي استعادت نشاطاً عسكرياً منذ طوفان الأقصى انطلاقاً من لبنان، عبر توجيه صليات صاروخية ضد إسرائيل. نشاط وجد فيه الحزب فرصة لصنع “الانسجام” السني- الشيعي، بعد مسار طويل من “تطويع” السنّة ومقارعتهم، ووصفهم بداعش أو بالإرهاب التكفيري.
ربما استساغ البعض في “الجماعة” هذه العراضات، طمعاً بالحضور والقوة وتعزيز الوجود السياسي، في ظل “التغيّب” أو التغييب للسنّة عن التأثير والفاعلية. خصوصاً بعد العراضات في تشييع القيادي في حركة حماس صالح العاروري، وأخرى في صيدا.. وإن لم تكن بهذا الحجم المنظم في عكار.
اللافت أن “الجماعة الإسلامية” أصدرت بياناً نفت فيه أن تكون هي التي نظمت هذه العراضة المسلّحة، واستنكرت استخدام السلاح وإطلاق النار. وهو بيان لا بد من التوقف عنده والسؤال عنه، طالما أن الجماعة لم تتبن ذلك رسمياً. وذلك، وسط معلومات تقول إن البعض من “الجماعة” استهواهم الأمر، في مقابل معلومات أخرى تؤكد أن الحشد العسكري لم يكن من ببنين ولا من عكار، بل أن الكثير من العناصر جاءت من جهات ومناطق وأحزاب مختلفة. وبعض معارضي حزب الله اتهموه بأنه وراء هذا المشهد، وأن بعض المقنعين ينتمون إلى “سرايا المقاومة” أو إلى مجموعات حزبية أخرى، وليس فقط للجماعة الإسلامية.
تشظية السنّة
في كل الأحوال، وبعيداً من كل هذه السجالات التي لا تنتهي، المشهد العكاري من شأنه خلق مناخ “حربي” في البلد، لا سيما في ظل التفلت المتزايد للسلاح وكيفية استخدامه. وفي الأساس، فإن جنوب لبنان تحول إلى ساحة مفتوحة لفصائل متنوعة، مقاتلة، وتشن هجمات ضد إسرائيل، بينها كتائب القسام، سرايا القدس، الجماعة الإسلامية وأحزاب أخرى صغيرة، إلى جانب حركة أمل وحزب الله. في مشهد يعيد لبنان إلى ما يشبه حقبة ما بعد اتفاقية العام 1969، وما قبل الحرب الأهلية وأثنائها.
من شأن مشهد ببنين في عكار أن يفاقم الانقسامات في لبنان. أولاً، عبر المزيد من التشظي في الساحة السنية. وثانياً، من خلال استخدام هذه العراضات المسلحة لرفع منسوب الخواف المسيحي. فالمسيحيون اليوم يشعرون باغتراب متزايد عن لبنان بصيغته الحالية وشكله القائم. وهم باتوا يسعون إلى الابتعاد عن هذا الـ”لبنان” الذي لا يشبه تصورهم له. بل ويتزايد عندهم النفور من هذه الدولة المركزية التي يسيطر عليها حزب الله.
فما جرى هو ضربة قوية إضافية لما تبقى من مفهوم الدولة، بما يعمق اليأس منها، خصوصاً في ضوء معلومات أخرى عن تنظيمات وتشكيلات أمنية وعسكرية مختلفة، قد تظهر في الفترة المقبلة، وسط أجواء من العراضات الحزبية وسيل الخطابات التعبوية والتحريضية التي تشهدها بعض المناطق.
على أي حال، حزب الله في كل نشاطه العسكري وعروضه العسكرية يظهر انضباطاً استثنائياً وتنظيماً مركزياً، بخلاف الجماعات الأخرى، وأهمها ما يبرز على الساحة السنّية (وفي المخيمات الفلسطينية). وهي صورة أخرى ربما يتعمد “الحزب” تقديمها إلى الداخل والخارج، ليقول إن هناك تنظيمات سيئة وغير منضبطة، ولا يمكن حصرها أو إحصاؤها.. وأنه في حالة تطويق الحزب والتضييق عليه، فستتكاثر هذه التنظيمات، فيما هو وحده القادر على ضبطها وضبط غيرها. وبالتالي، لا بد لذلك أن يؤخذ في الاعتبار محلياً ودولياً.
i