لم يكن المجتمع في إسرائيل على قدر من الانقسام مثلما كان عليه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول. أحد المتسببين بتوسيع الانقسام هو بنيامين نتنياهو مع طرح حكومته ما أسمتها حزمة “الإصلاحات القضائية” التي استصحبت احتجاجات وصفت بالأعرض في تاريخ إسرائيل على خلفية اتهامات  معارضيه له بـ “تقويض الديمقراطية” والتهرّب من تهم الفساد وتعطيل محاكمته لاحقاً. مساهمة نتنياهو في تجذير الانقسام في الشارع الإسرائيلي سبقه تقسيم للفلسطينيين بين سلطتي الضفة الغربية وغزة. كان تسمين حماس وغض الطرف عن تقاطر حقائب الأموال من قطر وإيران على الحركة جزءاً من سياسة التسمين التي قامت على تعطيل مشاريع التوافق الفلسطيني، وبالتالي تأجيل حل الدولتين عبر تحويل غزة إلى سجن مجسّد، فيما صارت الضفة أقرب لأرخبيل فلسطيني تقسّمه المستوطنات غير القانونية التي تنامت بفضل سياسات الثلاثي نتنياهو – بن غفير – سموتريتش.

افترقت سياسات نتنياهو في التعامل مع حماس عمّا حاول ائتلاف بينيت – لبيد تثبيته في أن حماس هي الخطر الحالي واللاحق الذي يجب التخلّص منه، في حين آثر نتنياهو على تدمير حماس الإبقاء عليها وتحويلها إلى كعب أخيل يعترض جهود الوحدة الوطنية الفلسطينية. لم يشأ نتنياهو تخليص السلطة الفلسطينية من خصم داخليّ يجب أن يبقى على قيد الحياة، لذا كان المال المتدفّق لحماس هو النسغ الذي أمدّها بالطاقة على حكم غزّة وإعداد العدة ليوم 7 أكتوبر. قد يكون من الصحيح القول إن نتنياهو  كان يحشو مسدّس حماس بالرصاص لغايات لم يتوقع أن تصل إلى إطلاق النار على رأسه يوماً ما. فائض الثقة والغرور هما ما أوديا برئيس الوزراء الذي تدنّت شعبيته إلى 28 في المئة وفق استطلاع لصحيفة معاريف. بكلمات أشد تكثيفاً: خلّفت عملية “طوفان الأقصى”، وفق الرواية الإسرائيلية، ألفاً وأربعمئة قتيل، حسابياً يمكن إضافة شخص آخر هو بنيامين نتنياهو إلى قائمة القتلى.

ليس أمام نتنياهو سوى طريق الانتقام قبل أن يختم حياته السياسية، وإذا كانت مغامرة حماس تحمل كل ملامح ما أسماه الكاتب في صحيفة شيكاغو صن تايمز، جين ليونز، بأنها “غريزة انتقام قَبَلي”، فإن إثارة سلوك الانتقام المقابل يجعل الوضع أكثر تعقيداً، فبمجرد “إثارة الغرائز القبلية، يصبح من الصعب إخضاعها”. ويدخل في باب الانتقام القبلي هذه الشراهة المتواصلة لتوسيع المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية والتضييق على فلسطينييها، لا للخروج إلى مناطق السلطة الفلسطينية التي لم يتبقَ منها سوى 40 بالمئة، بل إلى الأردن، فيما يزوّد بن غفير المستوطنين بالأسلحة والذخائر، لكن الانتقام الحاصل في غزة يفتح الباب أمام احتمالات بلوغ الأمور حدّ تقسيم القطاع وإعادة احتلال جزئه الشمالي، أو  تهجير سكّانها وإجلائهم ربما إلى شبه جزيرة سيناء بضغط أمريكي يعيد ذكريات نكبة عام 1948، ولعل تحقّق هذا السيناريو الأسوأ على غزة قد يخفف من غلواء الانتقادات لنتنياهو أو يقلل من أثر المحاسبة التي تنتظره، إذ إن تمنّع رئيس الوزراء عن الإقرار بمسؤوليته، رغم المطالبات الشعبية وحتى الحزبية، إنما ينبع من رغبته في تحقيق مكافئ حقيقي للهزيمة الكبيرة التي مني بها على يد حماس، وما من مكافئ سوى تدمير غزّة!

ليس من السهل التفاؤل بأن عملية 7 أكتوبر ستتحوّل، بعد أن تخمد النيران، إلى مقدّمة للمراجعة وبالتالي الذهاب إلى معالجة جذر المشكلة، على ما قيل في حرب أكتوبر بأنها لم تكن حرب تحرير بقدر ما كانت “حرب تحريك” حين حرّكت عملية السلام بين مصر وإسرائيل، فنتنياهو ليس غولدا مائير، ويحيى السنوار ليس أنور السادات. علاوةً على أن هذه الحرب تستلهم من التراث الديني اليهودي والإسلامي النبوءات التي تغّذيها وتجعلها ممتدة إلى الأبد، فيما المثير في الموضوع هو مزج الطبقة السياسية في إسرائيل وغزة بين الديني والسياسيّ بطريقة يصعب تفكيكها لاحقاً.

ليس من السهل الاقتناع بأن النار التي أضرمتها حماس قد تُطوّق في القطاع. هناك أفق ممتد للصراع تخوضه إيران بالاعتماد على أذرعها الكثيرة في العراق وسوريا لمواجهة الولايات المتحدة، وهناك مناوشات بين حزب الله وإسرائيل، وصواريخ بالستية ومسيّرات أدخلها الحوثيون إلى حلبة الصراع. ثم هل يمكن تصوّر القلق المصريّ والأردني من وافدين محتملين يحملون قضاياهم على أكتافهم إلى بلديهم؟ وهل يمكن تقدير حرج السعودية والإمارات من مغامرة حماس والرد الإسرائيلي القاسي؟ وهل ستحافظ واشنطن ولندن وألمانيا على دعمهم المفتوح لإسرائيل حال استدامة الحرب وتعذّر الحسم العسكري وتدحرجت كرة الرفض للحرب؟ ثم ماذا عن نهج أردوغان المضطرب داخل حلف شمال الأطلسيّ والذي يرى في كلّ مشكلة في المنطقة “تنمية” لوضعه الشعبيّ وتعمية عن أوضاعه الداخلية؟

لم يعد الانقسام داخلياً في إسرائيل حتى وإن قلّصت مساحته الحرب على غزة، ولم يعد إلى ذلك الانقسام فلسطينياً على ما يستوجبه الاتحاد لأجل الإبقاء على غزة، فالانقسام الآن يطاول العالم برمّته، وأما الضروري والمهم هو ألّا يُترك مصير المنطقة والعالم معلّقاً على ما قامت وتقوم به حماس، وما ستقوم به الحكومة الإسرائيلية، فإذا لم يكن إنهاء الصراع ممكناً مرة وللأبد، فإن ترشيده على الأقل، ووقف تحويله من حرب تقسم المنطقة والعالم وتورّط الدول الكبرى وتهدد ما تبقى من سلام وأمن في الشرق الأوسط، هي المسؤولية التي يتنصّل منها الجميع.