يبدو حسن نصرالله وكأنه متحالف مع الزمن، أو القدر.. أو مع أحداثهما. يختار مواقيته بعناية، وبمتابعة حثيثة لكل المجريات واطلاع وافٍ على المعلومات. جميعها تمكّنه من صياغة موقفه بعناية. وهو ما فعله منذ أيام تحضيراً لخطابه في 3 تشرين الثاني. سار في الكلام على خيط رفيع، من دون إخافة اللبنانيين، ومن دون طمأنة الإسرائيليين. ترك كل الاحتمالات مفتوحة، وازناً موقفه أو كلامه بدقة.
ظهر نصرالله كقائد لمحور المقاومة ويتحدث بإسم جميع فصائلها. يبارك تحرك هذا الفصيل، ويؤيد ويثني على تحرك ذاك. يبدو وكأن كل الأحداث تدور من حوله. وفي ذلك أيضاً فضل للرجل ولحزبه وتنظيمه، وفضل لحلفائه، ولا سيما في طهران، الذين يضعونه في كل ما لديهم، يقدّمون له الأجواء والمعلومات، يشاورونه، يسألونه ويأخذون برأيه.
بين منزلتين
لم يرتكب نصرالله أي خطأ في كلامه. ولذلك، خيّب آمال الكثيرين. فبعض من كان ينتظره بحماسة من مؤيد أو معارض لإعلان الحرب الواسعة، وشمولها كل الجبهات وصولاً إلى عمق لبنان وبيروت، خاب ظنّه. خيّب نصرالله ظنه في عدم تحميله لاحقاً مسؤولية تدفيع لبنان ثمناً وكلفة. خيب آمال الكثيرين من الذين أرادوا له أن لا يصعّد أو لا يهدد ويتوعد، فيشمتون أيضاً، بالقول إنه تراجع على وقع التهديدات الأميركية. وقف نصرالله بين منزلتين، الداخل والخارج. لبنان وفلسطين، وعلى مسرح العالم، مهدداً ومتوعداً بما في ذلك الأميركيين وليس فقط الإسرائيليين.
في هذا الإطار، كثّف من ضغوطه على الأميركيين في سبيل وقف إطلاق النار والاكتفاء بما جرى والانتقال إلى التفاوض. هو حتماً، يعلم بخبايا كثيرة، بما فيها زيارة بلنيكن إلى إسرائيل، ودعوات أميركية كثيرة في سبيل وقف إطلاق النار، أو تثبيت هدن غنسانية متقطعة. ولا يغفل عن قنوات خلفية تعمل بين طهران وواشنطن ودول عربية أخرىز وقالها بوضوح إن الرأي العام الدولي بدأ يتغير إزاء اسرائيل.
الغموض البناء
قبيل إطلالته، كانت الصحافة الإسرائيلية تصفه بـ”الفنان”. وربما هو وصف راق للكثيرين من مريديه. لما لذلك من صورة مرسومة لهالته. فهو والحزب، تفننوا قبل أيام بفيديوهات ومؤثرات بصرية وصوتية وصور له ولحركات يديه، واستخدام آيات قرآنية ظنّ الكثيرون فيها أن الحرب على الأبواب وأنه سيخرج ليعلنهاز لكنه اعتبر أنه في قلب الحرب من دون الحاجة للإعلان عن ذلك. ونفى حالة الحرب في إشارته إلى تنظيم احتفال جديد بعض أيام قليلة لمناسبة يوم الشهيد في 11 تشرين الثاني.
وفي ذلك انقسمت الآراء، بين من وصفه بأنه خرج في الخطاب ليشرح ما جرى، وبالتالي لم يكن على قدر آمالهم أو ظنونهم. وبين من اعتبر أنه كان موفقاً سياسياً وفي عرضه السردي والتاريخي، بالإضافة إلى تهديداته. لكن عملياً، اللعبة البصرية والصوتية التي سبقت الخطاب، أخذت الوهج أكثر، فخرج هو يعززها بما أسماه “الغموض البناء”، تاركاً الاحتمالات كلها مفتوحة على كل الخيارات. ولذلك تعمد عدم الكشف عن كل ما لديه، وزرع الشكوك والتخمين في عقول كثيرين، وخصوصاً الإسرائيليين، مثبتاً أنه يمتلك الأوراق الكثيرة والتي لن تُكشف حالياً، إنما قد يكشفها الميدان.
قواعد جديدة
نجح حزب الله في جعل خطاب نصرالله منظوراً من قبل اللبنانيين، الإسرائيليين، والعالم. وبالتالي نجح في خلق هذا الجو الذي سبق الخطاب والذي ترقبته الدول، ما عزز الهالة، بغض النظر عن ما خرج به الخطاب.
وهذا أمر ينطوي على أهمية إيلاء الحزب للعبة الإعلام والحرب النفسية والمعنوية. فيما عمل على ترسيم حدود جديدة وقواعد حديثة للصراع، مع الاستعداد للتدحرج ولو اقتضى ذلك الذهاب إلى حرب إقليمية. يبدو الرجل وكأنه يحالف الزمن، أو الحظ. وهو الذي حالفه النصر في أيار 2000، وفي تموز 2006، وفي سوريا، وصولاً إلى تطورات المنطقة ككل في هذه المرحلة، حيث تبقى الساحة مفتوحة له لا لغيره، هو الذي يخوض القتال متى ما اقتضى الظرف والحاجة. هو الذي يغوص في غمار السياسة متى حان وقتها، فيما لا إرادة قتالية لدى أعدائه، لا الأميركيين الذين يقولون إنهم لا يريدون الحرب ولا التصعيد وقتال إيران وحلفائها إنما ردعهم، ولا الإسرائيليين الذين يقولون إنهم يتفرغون لغزة.
وهنا لا بد من انتظار قواعده الجديدة والتي كان واضحاً فيها بالرد على الغرب بمنع كسر حماس أو سحقها، وببقائها، وربما حصر التمثيل الرسمي الفلسطيني بها.