Palestinians inspect the damage of destroyed buildings following Israeli airstrikes on Gaza City, Wednesday, Oct. 25, 2023. (AP Photo/Abed Khaled)

بداهة القول ان خطاب الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بالامس لم يكن له لزوم، ولم يخدم أي غرض، بل لعله أساء الى بعض الاغراض التي أُلقي من أجلها، لا تلغي الحاجة الى نقاش ذلك النص المغلف ب”الغموض البناء”، والذي يبدو أنه أول مؤشر على فك الارتباط مع الحرب في قطاع غزة، وبالتالي مع حركة حماس المهددة هي وجمهورها الآن، بما هو أسوأ مما تعرض له الحزب وبيئته في حرب العام 2006 مع العدو الاسرائيلي.

حتى ولو كان الخطاب سعى الى تطمين جمهور حزب الله ، ومعهم جموع اللبنانيين، الى أنه لا نية لإشعال حرب صواريخ ومسيّرات مدمّرة شبيهة بحرب العام 2006، فإنه كشف أن ذلك الجمهور كان خائفاً بالفعل، بعكس ما كان يدعي. وهو، بالمناسبة، إحساس طبيعي، وصحي، بالغريزة، والعقل، والمنطق، وليس دليل وهن أو ضعف.. بل مجرد دليل على الرغبة بتفادي الانتحار الجماعي، أو بتعبير أدق الابادة الجماعية التي يتعرض لها الآن فلسطينيو قطاع غزة.

المسافة التي رسمها نصرالله، مع القطاع الفلسطيني الذي يباد حالياً، لا تدع مجالا للشك في تلك الرغبة أو على الاقل النية: المغامرة المحسوبة التي يخوضها حزب الله، على خطوط التماس الحدودية مع العدو الاسرائيلي، والتي “تعرضنا فيها للخطر”، حسب تعبير لم يسبق للامين العام أن استخدمه، بلغت حدها الاقصى، وهي لن تخرج عن هذا السياق، إلا اذا تكرر الاعتداء الاسرائيلي الذي أدى الى سقوط بعض المدنيين اللبنانيين شهداء، وآخرهما الشهيدين المغدورين من بلدة الوزاني الجنوبية، عندها يمكن اعتماد معادلة “مدني مقابل مدني”..وليس معادلة “عسكري اسرائيلي مقابل مدني لبناني” التي فرضتها اسرائيل، وتمكنت من خلالها من رفع عدد الشهداء اللبنانيين، مدنيين ومقاتلين، الى ما يقرب الستين شهيداً منذ بدء طوفان الاقصى، قبل نحو شهر.

الاشارة الى ان سلوك العدو في قطاع غزة، يمكن ان يستبدل تلك المغامرة المحسوبة التي يخوضها الحزب، توهن موقفه أمام جمهوره وأمام بقية اللبنانيين الذين كانت غالبيتهم (ومن مختلف الطوائف) تميل ضمناً، وفي بعض لحظات الحرب الراهنة، الى مؤازرة قطاع غزة بما هو أكثر من تلك الاشتباكات المحدودة والمتقطعة على خطوط التماس، لا سيما وأن العدو يقدم أدلة وصوراً لا تحتمل عن حرب الابادة التي يشنها على قطاع غزة وسكانه، والتي بلغ عدد ضحاياه حتى اللحظة أكثر من خمسين الفاً بين قتيل وجريح ومفقود، هذا عدا عن المهجرين الذين يمكن ان يطرق بعضهم أبواب لبنان.

لم يكن الاسرائيليون يتوقعون أو يستحقون تلك الرسالة العلنية من الحزب، على الاقل ليس الآن. اللجوء الى قواعد الاشتباك الجديدة، لم ينقض قواعد الردع القديمة، والتي أضيفت اليها أنظمة مضادة للصواريخ والمسيّرات، كما توجت بوجود ذلك الاسطول البحري والجوي الاميركي والاوروبي، الأكبر منذ غزو العراق، والذي لا ينتشر فقط قرب السواحل الشرقية للمتوسط، بل يقوم بمهمات عسكرية لصالح العدو في الاجواء والمياه اللبنانية..تتعدى ترهيب الضاحية الجنوبية لبيروت والضاحية الشمالية لطهران، وهو ما لا يمكن إنكاره، ولا حتى التصدي له، من دون المخاطرة بمستقبل النظام الايراني، وربما السوري ايضا.

مع كل ذلك، كان الاحتفاظ ب”الغموض البناء”ممكناً ومفيداً بعض الشيء، حتى ولو كان تميز الحزب في سلوكه الحالي وخطابه الاخير، عن سلوك الحوثيين مثلا أو عن سلوك المليشيات العراقية التابعة لإيران التي تسرعت ربما باطلاق الصواريخ والمسيّرات الاحتجاجية نحو العدو، ولم تخدم فلسطينيي القطاع الذين تتسارع حملة إبادتهم أكثر من أي وقت مضى..بما يسقط حجة المزايدة، ليس فقط في الشؤون العسكرية والامنية، بل في الشأن السياسي، وفي البعد التاريخي لواحدة من أخطر الحروب التي يتعرض لها الفلسطينيون والمشرق العربي برمته، منذ العام 1948.