ثمة عدد لا يحصى من المجلدات التي كُتبت حول أفريقيا كتبها “خبراء أفريقيا” القدامى، وهم الصحفيون البيض، وكتاب المذكرات والرحالة أو روائيون بيض يعرفون أفريقيا أفضل من الأفارقة أنفسهم. وينسج هذا النوع الأدبي، الذي سخر منه مقال بينافانغا واينانا الساخر بعنوان “كيف تكتب عن أفريقيا”، قصصًا تمجد المناظر الطبيعية للقارة لكنها تنتقد سياساتها، وتعظم الحياة البرية فيها، لكنها تُناصر شعبها، وتستخدم كلمات مثل “خالدة” و “بدائية” و “قَبَلية” لدى شرح مسارات أفريقيا التاريخية.
ويأتي كتاب زينب بدوي “تاريخ أفريقي لأفريقيا” ليصحح لهذه الروايات. ويمتد نطاق الكتاب الطموح ومنظوره المنعش من أصول الإنسان العاقل في شرق إفريقيا إلى نهاية الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. ويستند الكتاب إلى مقابلات أجرتها بدوي مع علماء، ومحافظين على الثقافة الأفريقية، والذين أُدرجت خبراتهم، وملاحظاتهم، وحكمتهم، في جميع أرجاء الكتاب.
وزينب بدوي هي واحدة من بين مجموعة متميزة تمتلك الموارد، والشبكات، والنوايا الحسنة لإنجاز عمل كهذا. لقد وُلدت في السودان وترعرعت في إنكلترا، وهي معروفة كصحفية إخبارية في قناة تشانل فور نيوز وبي بي سي. وتتمتع بتأثير كبير لدرجة إلى الحد الذي حصلت فيه حصلت على مقابلة حصرية مع الرئيس السوداني آنذاك عمر البشير في عام 2009 ، عندما أصبح أول رئيس دولة تتهمه المحكمة الجنائية الدولية بجرائم حرب مزعومة. وهي تشغل منصب رئيسة جامعة SOAS في لندن منذ عام 2021.
ظهر هذا الكتاب، والذي هو أول كتاب لها، من سلسلة وثائقية مكونة من تسعة أجزاء أعدتها لقناة بي بي سي العالمية. وحيلة بدوي لافتتاحية هي: “يعود أصلنا جميعًا إلى أفريقيا، ومن ثمّ فإن هذا الكتاب موجه للجميع”، ويليها ما يقرب من 500 صفحة من التفاصيل التاريخية الكثيفة والرائعة في كثير من الأحيان. وهي تروي الأنساب الحاكمة الملحمية، والمنافسات الأسرية التي نشأت في شمال أفريقيا، قبل قرون من ميلاد السيد المسيح، والتوسع المحفوف بالمخاطر، والدمج التوفيقي للديانات الإبراهيمية في نسيج القرن الأفريقي الاجتماعي، وظهور ممالك غرب أفريقيا التي غذت الاقتصاد العالمي في وفت كانت فيه أوروبا تترنح من الطاعون الأسود الذي ضربها في أواخر العصور الوسطى، والإنجازات التي لم تحظ بالتقدير الكافي لعالم البناء الأفريقي كما خلدتها الآثار الحجرية المهيبة في المناطق النائية في جنوب أفريقيا. وهي تولي اهتمامًا دؤوبًا بالجندرة طوال الوقت، وغالبًا ما تشير إلى الطرق التي أغفلها الناس، والتي شكلت النساء بها العالم من حولهن. وهي تنزلق إلى زمن المضارع عند مناقشة البصمة التي خلفها كلً من العبودية والاستعمار على تنمية أفريقيا وعلى المناقشات المعاصرة التي تدور حول طريقة تعاطينا مع الماضي.
ولكن بسبب إنجازات هذا الكتاب العديدة المتمثلة في نقل الديناميكية والتنوع في تاريخ أفريقيا الطويل، فإنه قد يحبط القرّاء الذين يميلون إلى الكتابة العلمية أو الأدبية. فنظرة الكتاب التاريخية البانورامية تأتي على حساب حجة جديدة ومبتكرة. ونثر بدوي شفاف من دون أن يكون غنائيًا. وحتى أن حضورها في الصفحة سريع الزوال. فنحن وإن كنا نرى ومضاتٍ من خبرتها واكتشافاتها أثناء البحث في الكتاب، لكنها لا تنغمس في كشف ذاتي أكثر حميمية. وعدم وجود قوس درامي يمنح الكتاب إحساسًا بالخلاصة الوافية.
ومع ذلك ، يُذكّرني هذا الكتاب براوية تيجو كول الأخير بعنوان”الرعشة”، وهي في منزلة تأمل في الطريقة التي شكل فيها الفن والثقافة والموارد والشعب الأفريقي عالمًا غربيًا يعرف النذر اليسير عن أفريقيا. ويتساءل الراوي: “كيف يمكن للمرء أن يعيش بطريقة لا تلتهم حياة الآخرين، ولا تحولهم إلى تمائم، وأشياء رائعة، ومجرد مصطلحات في منطق الثقافة المهيمنة؟” ويقدم كتاب بدوي إجابة واحدة. ومجرد رواية التاريخ الأفريقي من منظور أفريقي، وجعل هذا التاريخ في متناول جمهور واسع هو في منزلة تأكيد على الكرامة الأفريقية ودعوة لمعرفة المزيد عن أفريقيا. وعلى حد قول بدوي: “آمل أن أكون قد أثبت أن أفريقيا تتمتع بتاريخ، وأنها جزء أساس من قصتنا العالمية، وأنها تستحق قدراً أعظم من الاهتمام والاحترام مقارنة بما حظيت به حتى الوقت الحالي”. لقد فعلت أفريقيا ذلك بالتأكيد.