أنطوان الدويهي

هل يمكن أن تطيح العاصفة الهابة على المنطقة بـ«الصيغة اللبنانية»؟ سؤال كبير لا يطول المستقبل اللبناني فحسب، بل المستقبل الجغرافي – السياسي للمشرق العربي برمته، أيضاً.

نذكر أنه، قبل هبوب عاصفة «طوفان الأقصى» بزمن بعيد، نادراً ما تعرّضت ظاهرة سياسية لهذا القدر من المغالطات التي طاولت ولا تزال «الصيغة اللبنانية». فمنذ 1975 وما قبله إلى اليوم، تنظر معظم القوى التغييرية، من تحالف القوى اليسارية والإسلامية، اللبنانية والفلسطينية، في حروب السبعينات، إلى العديد من الهيئات التغييرية المنبثقة عن انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، إلى «الصيغة اللبنانية»، باعتبارها السبب الرئيسي، العميق، للمشكلات المتوالية على لبنان وصولاً إلى انهياره.

ويكفي، وفقاً لهذه النظرة، إسقاط «الصيغة اللبنانية»، كي تنفتح الطريق أمام الحل التاريخي المنشود. ويتم إسقاطها بـ«إلغاء الطائفية السياسية»، وهو الشعار الأكثر انتشاراً ورواجاً، أو بتحويل لبنان «دائرة انتخابية واحدة، خارج القيد الطائفي»، وما شابه ذلك من طروحات. وهذه الدعوات هي من البداهة وقوة الحجة في نظر أصحابها بحيث يستغربون ويستهجنون أن يعترض أحدٌ عليها. فهل يمكن لعقل مستنير الدفاع عن «الصيغة اللبنانية»؟ وكيف يكون ذلك؟

من الغريب، أولاً، ألا ينتبه العديد من تغييريي 17 أكتوبر 2019 إلى أن معظم القوى الماركسية التي رفعت شعارات إلغاء «الصيغة اللبنانية» في حروب 1975، قد عمدت فيما بعد إلى نقد ذاتي عميق لمواقفها؛ هو شهادة شرف لها دفع بعض قادتها حياتهم ثمناً له.

ثم ثانياً، هذه الفئة من التغييريين لا تعي أنها تلتقي في الموقف نفسه مع قوى طائفية ومذهبية صافية، متعارضة تماماً معها ومعادية لها، كـ«المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى»، «وحركة أمل»، و«الجماعة الإسلامية» وسواها. فكيف نفسّر هذا اللقاء؟… بما أنه يستحيل التقاء التغييريين والمذهبيين على هدف واحد في موضوع إلغاء «الصيغة اللبنانية»، فلا بد أن تكون لكل منهما غاية خاصة به. فما هما هاتان الغايتان، وأي من الطرفين يدرك حقاً ما يريد؟ من المرجح أن الطرف التغييري يأمل، بعد إسقاط «الصيغة اللبنانية»، أن يقوم في لبنان على أنقاض «النظام الطائفي»، فوراً أو بعد حين، نظام ديمقراطي علماني شبيه مثلاً بالديمقراطية الفرنسية. وهو وهمٌ ما بعده وهمٌ. فهذه الفئة التغييرية لا تدري ماذا تفعل. أما المذهبيون فيعرفون تماماً ماذا يريدون وماذا يفعلون. فإسقاط «الصيغة اللبنانية» سيقود بنظرهم إلى الغلبة العددية الطائفية، أو المذهبية، فتزول الخصوصية اللبنانية، ويتحول لبنان ديكتاتورية مماثلة لديكتاتوريات المنطقة، تقوم فيه «ديمقراطية الـ99 بالمائة» المؤبدة.

ثم، ثالثاً، يغيب عن بال دعاة إلغاء «الصيغة اللبنانية»، أن هذه الصيغة هي أقدم الأنظمة السياسية وأكثرها استمرارية في الشرق الأوسط، وربما في مجمل المنطقة الآسيوية. فهي نشأت عام 1861، وما زالت مستمرة حتى اليوم، أي طوال 162 عاماً متواصلة، لم تنقطع خلالها إلا نحو 5 أعوام (1915 – 1920)، حين علقت تركيا العمل بها بعد دخولها الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والنمسا، وفرضت الحكم العسكري على جبل لبنان. فـ«الصيغة اللبنانية» أقدم من جميع الأنظمة الملكية والجمهورية في الشرق الأوسط. ولم تقوَ عليها التحولات الهائلة التي عصفت بالمنطقة، من الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى انهيار السلطنة العثمانية، إلى رحيل الاستعمار، إلى قيام الكيان الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، إلى انتقال الثقل الاقتصادي والمالي نحو الخليج العربي مع ظهور النفط والغاز، إلى كل الحروب والانقلابات والفتن والأهوال التي عرفتها المنطقة خلال أكثر من قرن ونصف القرن.

وحقيقة الأمر أن التركيز على إلغاء هذه الصيغة هو مؤشر بالغ الدلالة عن الجهل المحيط بالمسألة اللبنانية، وعلى الخلط بين مجتمع الأفراد/ المواطنين في العالم الصناعي الأوروبي، ومجتمع الجماعات السائد في لبنان ومحيطه المشرقي، بحيث يسري الاعتقاد بأن ما يصح على الأول يصح حتماً على الثاني، وهي متاهة ناتجة عن عملية تثاقف مشوهة، طويلة الأمد، وعن تبني مفاهيم ومقولات جاهزة، آتية من المجتمع الصناعي، الغربي والشرقي (سابقاً)، لا تنطبق على مجتمع الجماعات.

فـ«الصيغة اللبنانية» ليست مصدر كل الشرور، وليست منبع الشر الأعظم. وتوصيفها على حقيقتها لا يعني قط أنها صيغة مثالية خالية من الشوائب، وأنه لا يجدر تقييمها وتطويرها وتحسينها، أو ربما استبدال صيغة أخرى بها، أكثر ملاءمة للديمقراطية المجتمعية التعددية. ونذكر هنا قول ريمون أرون الشهير في أن الديمقراطية الغربية ليست هي النظام الأمثل في العالم، بل النظام الأقل سوءاً. و«الصيغة اللبنانية» ليست هي النظام الأمثل بل الأقل سوءاً في محيطها المشرقي. واستمراريتها طوال 162 عاماً في بحر التحولات الكبرى هي دليل ارتكازها على معطيات موضوعية وتاريخية صلبة، وعلى رؤية خلاقة للواقع، لا يدركها الكثيرون. وخلاصة القول إنه بعد سقوط الإمارة الشهابيّة عام 1842، وفشل حل التقسيم في جبل لبنان ووصوله إلى مذابح 1860، كان لا بد من إيجاد صيغة لتعايش الجماعات الموجودة في المدى اللبناني منذ أقدم الأزمان. والصيغة التي أقرّت عام 1861 هي التي أنهت التقسيم، وتجنّبت الفيدراليّة الأرضيّة، بإقامتها نمطاً فريداً من الفيدراليّة المُجتمعيّة، حظيت الجماعات المختلفة بموجبها بتمثيل متساوٍ في السلطات المركزيّة والمحليّة، بصرف النظر عن أعدادها، في أرض وطنيّة موحّدة.

إن المأخذ الأساسي على «الصيغة اللبنانية» هو أنها لم تستطع تحويل الجماعات إلى أفراد/مواطنين. لكن ما هو النظام السياسي الذي استطاع تحقيق ذلك في المشرق والمغرب العربيين، بعد انقضاء قرن كامل على سقوط السلطنة العثمانية؟ لا أحد. وعلى العكس من ذلك، نشهد اليوم يقظة متفاقمة للجماعات الطائفية والمذهبية والقبلية والعرقية في مجمل هذه الأنظمة. وما يميز «الصيغة اللبنانية» أنها أحسنت إدارة تعايش الجماعات بتكريسها التوازن واحترامها تعدد الخصوصيات، وإبعادها لبنان عن جدلية الساحق والمسحوق المهولة، السائدة حوله، المعقمة المجتمعات، وبإطلاقها ديناميكيات المجتمع المدني الخلاقة، في النهضة المعرفية والأدبية والفنية المشرقية، وفي ثقافة الحرية، وثقافة نوعية الحياة، والانفتاح، وإطلاق العقل النقدي، بحيث تحوّل «النموذج اللبناني» إلى منارة الشرق طوال 114 عاماً (من 1861 إلى 1975)، قبل أن تخترقه الأنظمة الأمنية من كل صوب، من نافذة حرياته، وتقوده إلى الانهيار.

و«الصيغة اللبنانية» هي اليوم الرابط الأخير بين دولتي لبنان المقسّم: ما بقي من دولة لبنان الكبير، ودولة الثنائي الشيعي. فهل تصمد أمام إعصار الشرق الأوسط؟