ملخص
الفكرة الأساس التي أراد المفكر الفرنسي أليكسي توكفيل معالجتها في كتابه “النظام الجديد والثورة ” هي أن الديمقراطية تقوم في الأساس على مبدأ المصلحة الفردية
هو واحد من الكتاب السياسيين الذين قد لا يكون ثمة مفر من العودة إليهم وإلى دراساتهم، في كل مرة تنطرح فيها أسئلة بالغة الجدية حول السياسات والحكم. وذلك على رغم كل شيء. ولعل هذه العبارة الأخيرة تخدمنا للإفلات من واقع أن أليكسي دي توكفيل، الكاتب والسياسي الفرنسي الذي نتناوله هنا، قد أساء إلى تاريخه وتعاملنا مع ذلك التاريخ بتصريحاته حول الاستعمار، مؤيداً له بصورة باغتت المتعاملين مع كتبه الأخرى وأساءت إلى نظرتهم إليه. ومهما يكن، هذا أمر سبق أن عالجناه مراراً هنا. ولذا نكتفي بالعودة إلى واحد من كتبه الأكثر جدية، وهو بالتحديد كتاب “النظام الجديد والثورة” الذي يعد كتابه الأساس في قراءته للثورة الفرنسية، والذي وضعه على ضوء تتبعه خلال أعوام طويلة لمآلات تلك الثورة، التي عدت دائماً من أهم الأحداث التاريخية في الأزمنة الحديثة.
ففي السطور الأولى لكتابه الشهير “ذكريات” الذي وضعه خلال عام 1850، وبعد أن خاض بفشل ذريع قد لا تكون له يد فيه تجربة الحكم وزيراً للخارجية في حكومة فرنسية لم يدم حكمها سوى أقل من عام، يقول توكفيل “إذ أجدني بعيداً في صورة موقتة عن مسرح الأحداث، وإذ أجدني غير قادر حتى على الخوض في أية دراسة متواصلة بسبب اعتلال صحتي، قررت أن أنكب وسط عزلتي على تأمل ذاتي لبعض الوقت، أو بالأحرى على تأمل ما هو حولي من أحداث معاصرة كنت فيها فاعلاً، أو عليها شاهداً”.
نظرة على “تلك الثورة”
والحال أن المتعة التي استشعرها توكفيل وهو يكتب ذكرياته ومذكراته على هذا النحو، ثم ينشرها العام التالي لتثير ضجة في باريس، سرعان ما تحولت لديه إلى فائدة وإلى قاعدة لعمل أكثر جدية، أقدم عليه بعد ذلك بخمسة أعوام أو ستة حين قرر أن يدلي بدلوه في مجال التأريخ لأحداث الأزمات السابقة بعض الشيء، أي الأحداث التي واكبت التغيرات الأساس، التي أحدثتها في فرنسا وفي أوروبا وربما في العالم كله تلك الثورة الفرنسية الكبرى، التي كان توكفيل أصلاً من كبار المهتمين بها والمقتفين آثارها، حتى وإن كان قد ولد بعد اندلاعها بأعوام طويلة.
ومن الواضح أن توكفيل الذي كان سبق له أن كتب حول أميركا واحداً من أفضل المؤلفات، التي عالجت ديمقراطيتها ومجتمعها الجديد (حتى زمنه في الأقل) وزار بلداناً عدة، تحدث عن تجارب الحكم وعن الاتجاهات الاجتماعية فيها، وكذلك فعل إذ عالج الوضع في فرنسا منذ عام 1836 في كتابه “الوضع الاجتماعي والسياسي في فرنسا قبل 1789 وبعده”، توكفيل هذا قدر له أن يختتم حياته بتلك الدراسة التي ستظل عمله الأساس. ومن المفيد أن نذكر هنا أن توكفيل كان يريد لكتابه هذا أن يكون جزءاً أول في سفر ضخم يؤرخ فيه للثورة في صورة عامة، ومن شتى نواحيها، لكن صحته المتردية وموته المبكر عام 1859 حالا دون اكتمال المشروع، فبقي منه جزؤه الأول ذاك، يقرأ ويحلل على مدى الأزمان منظوراً إليه، على رغم عدم اكتماله، بوصفه أول محاولة جادة في التأريخ لدراسة الثورة والتغيرات التي واكبتها، دراسة علمية تحليلية لا يكتفي صاحبها بأن يورد الأحداث في تسلسلها وانطباعاته الذاتية عنها.
الثورة الفرنسية: ما الذي يبقى منها؟ (غيتي)
الديمقراطية والفردية
ومن الواضح أن الفكرة الأساس التي يريد توكفيل معالجتها هنا أن الديمقراطية تقوم في الأساس على مبدأ المصلحة الفردية، ومن هنا فإنها تجازف بأن تعزل الإنسان وتهبط بمستواه الخلقي، حائلة بينه وأن يتحمل مسؤولياته كافة. ومن هنا يتعين إضفاء طابع لامركزي على السلطة، وتحرير الصحافة وبقية المؤسسات والمشاريع إلى الحد الأقصى، وجعل القضاء مستقلاً كل الاستقلال عن الحكومة. فكيف يتوصل توكفيل إلى هذه الاستنتاجات في كتابه هذا؟ في الحقيقة، أن أهم ما في الأمر هو أن الكاتب يعيد في كتابه رسم الأحداث السياسية والاجتماعية التي عاشتها فرنسا خلال المراحل المتتالية لثورتها، منذ تهاوي الإقطاعيات وحتى ظهور مبادئ عام 1789، وصولاً إلى الانقلابات الديمقراطية التي حصلت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، أي الزمن الذي عاش فيه توكفيل وشهد أحداثاً كان فاعلاً في بعضها. وما يفعله توكفيل هنا إنما هو تأمله الأحداث في واقعها التاريخي، وليس من زاوية تخلط السيكولوجيا الجماعية بسيرة رجال الثورة، كما كان اعتاد أن يفعل كثير من الذين أرخوا للثورة من قبله. إن توكفيل هنا يدرس الحياة الاجتماعية للأمة في تعقيداتها جميعاً، فإذا كانت الثورة قد اتخذت لنفسها مسوح ثورة دينية في طول أوروبا وعرضها، وبخاصة في مجال ترويجها لتصور جديد لحياة الإنسان ووظيفته، فمن الصحيح أيضاً أن دلالتها الاجتماعية هي الوحيدة القادرة على إسقاط الامتيازات والقوانين التي كانت تحكم النظام القديم.
على خطى النظام السابق
يلاحظ توكفيل هنا أن الثورة اهتمت كثيراً بمركزة الإدارة والعدل، وبتوفير أكبر قدر من الضمانات للموظفين… فإذا بها في هذا كله لا تفعل أكثر من اتباع الخطى نفسها التي كان النظام القديم يسير عليها، فالنظام الملكي قبل الثورة كانت الأمور قد انتهت به إلى الإمساك بالسلطات كلها وتكبيل أيديها وإلى إفساد النبالة، إذ وجدت نفسها بعيدة من السياسة المشرفة (على عكس ما حدث بالنسبة إلى النبالة الإنجليزية في القرن الثامن عشر)، راحت تغوص أكثر وأكثر في الكسل والجبن… ومن هنا، فإن المشكلة تكمن في أن الظاهرة نفسها قد تجلت مع المركزية الثورية الجديدة، التي مورست من قبل كل السلطات التي تعاقبت على الحكم، منذ عهد الثورة حتى العصر الذي عاش فيه توكفيل. وهكذا صار من شأن الحرية أن تتحول إلى فوضى، بل حتى إلى نوع من “ديكتاتورية الشارع والحثالة”. ويتأتى هذا ودائماً في رأي توكفيل كما عبر عنه ذلك الكتاب الذي أنهى به حياته، من واقع أن الديمقراطية لا ترفدها هنا أية تقاليد حقيقية، ولا أية مشاركة صحية في الحكم وفي إدارة شؤون الدولة من قبل الجميع، وبصورة تفترض تشاركاً فعلياً في تملك الخير العام. وبخاصة أن الكتاب بالنسبة إلى توكفيل أيضاً، وكما حدث بصورة خاصة في “عصر التنوير”، يكتبون وينتقدون هنا انطلاقاً من ذهنية تحليلية خالصة، وتبعاً لعناصر الفكر السياسي النظري، ومن دون أن يهتموا أيما اهتمام بتحليل واقع الأمور. و”يترتب على هذا أن تقدم إلينا منظومات قد تكون حسنة النيات، لكنها عمياء تماماً بالنسبة إلى نظرتها إلى الواقع، ذلك أن تجذر الثورة في تطوراتها كافة إنما يخفي افتقاراً حقيقياً إلى التربية السياسية الحقة، مما يجعل من السهل بكل أسف الانتقال من التمجيد النظري للحرية إلى الغوص في العبودية السياسية المطلقة”.
وهكذا إذاً أدلى بدلوه في الحديث عن الثورة واحد من ألمع العقول الفكرية الفرنسية التي عاشت خلال المرحلة التالية للثورة الفرنسية. والحقيقة أن توكفيل كان أقدر من أي مفكر آخر في ذلك الحين على الغوص في مثل ذلك التحليل، الذي جعل منه محصلة حياته وأفكاره وسفراته ومقارناته، بين ثورات عدة ونظريات عديدة، راسماً انطلاقاً من ذلك كله صورة للواقع كما عاينه ميدانياً ونظرياً وليس نظرياً فحسب. وتوكفيل (وكامل اسمه هو الكونت أليكسي دي توكفيل) ولد عام 1805 في باريس، لعائلة تنتمي إلى النبالة النورماندية العريقة. ودرس بين عامي 1820 و1823 في كلية ميتز حيث كان أبوه محافظاً للمنطقة. ثم حصل على إجازة الحقوق من باريس عام 1826. وخلال العامين التاليين بدأ سلسلة رحلاته وجولاته التي قادته حتى سنوات حياته الأخيرة، إلى إيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة وإنجلترا وسويسرا، وغيرها من البلدان الأوروبية. وهو في جولاته تلك لم يكن سائحاً فضولياً، بل كان باحثاً مدققاً يهتم بدراسة الأنظمة السياسية وسيرورة التغيرات الكبرى. ومن هنا رأيناه بعد كل سفرة وجولة يدون ملاحظاته وأفكاره في كتب عدت لاحقاً من الأسفار المؤسسة للفكر السياسي الحديث، بدءاً بدراسته حول “نظام السجون في الولايات المتحدة وإمكان تطبيقه في فرنسا” وصولاً إلى “النظام القديم والثورة”، ومروراً بدراسته عن “الديمقراطية في أميركا” وغير ذلك من كتب ذكريات ومراسلات ودراسات. ومات دي توكفيل عام 1859 في مدينة كان الساحلية إثر مرض اشتد عليه وحال دون استكماله مشاريعه الدراسية.