وأنا أطالع في نظريات المؤامرة عبر التاريخ، وكيف أنَّها بدأت وتطورت في كنف مُجتمعات عدة واستمرت إلى يومنا هذا؛ مُتتبعاً خلال ذلك أسئلة كثيرة تتعلق بأدواتها والركائز التي تعتمدها في صياغة سرديَّاتها، تمعنت لبرهة وجيزة في واقع نظريات المؤامرة في الوسط الكُردي، وطرحت على نفسي السؤال الآتي: هل لدينا نظريات مؤامرة خاصّة بنا، أي ذات طابع كُردي بحت؟ من هُنا توجب عليَّ إمعان النظر في السؤال أكثر، ومن ثم تتبع أثر محاولات الأجوبة عليه.
لقد عرفت المُجتمعات البشريّة نظريات المؤامرة منذ أقدم العصور وهي ما تزال مُستمرة حتّى يومنا هذا. فمثلاً: تم اتهام اليهود في العصور الوسطى في منتصف القرن الرابع عشر في أوروبا تحديداً بأنَّهم هم من سمموا آبار مياه الشرب مما تسبب بالتالي في تفشي وباء الطاعون “الموت الأسود” الذي تسبب بموت ما لا يقل عن ثلث سكان أوروبا وقتذاك. فقد فسر المُجتمع الأوروبي آنذاك ظاهرة طبيعية من خلال ربطها بمجموعة دينية مُعينة (اليهود في مثالنا هذا) والتي من المُزعم أنَّها هي مَنْ تقف خلف الوباء. كما وفسر البعض الآخر سبب تفشي الطاعون بالقول: إنَّ الرب يعاقبنا على ما اقترفناه. فنحن ما نزال نسمح لليهود بالعيش بيننا وهم “قتلة الرب” (من تسببوا بقتل المسيح بحسب الرواية الكاثوليكية السائدة آنذاك)، لذلك علينا طرد وقتل اليهود حتّى يعفو ويصفح عنا الرب ويُزيل عنا المرض والمجاعة. وكم هو شبيهٌ هذا التفسير براهننا. ففي الوسط الإسلامي نُظر إلى وباء كورونا على أنَّه لعنة من الله أبتلى به عباده عقاباً على أعمالهم. التفسير الأسطوري الأول يعود إلى أوروبا القرون الوسطى، والثاني إلى الفضاء العربي – الإسلامي في القرن الحادي والعشرين.
ثم تتالت من بعدها نظريات المؤامرة بكثرة ونمت في الوسط الأوروبي والأميركي خصوصاً، نذكر منها على سبيل المثال: (بروتوكولات حكماء صهيون، الدولة العميقة، نظرية مؤامرة بيتزاغيت، نظرية مؤامرة كيو أنون، نظرية مؤامرة كيمتريل، نظرية مؤامرة إيلوميناتي (المتنورين)، مؤتمر بيلدربيرغ أو نظرية المؤامرة العالمية الخاصّة بلقاح كورونا وغيرها). جميعها تشترك في كونها تُفسر مسائل مُختلفة بطريقة ساذجة وذلك بالقول إنَّ مجموعة من المتآمرين يقفون خلف ما يجري في واقعنا ويريدون بذلك إلحاق الأذى والضرر بنا.
من الثابت أنَّ لنظريات المؤامرة قديماً وحديثاً قواسم مُشتركة عدة لا تختلف من ثقافة إلى أخرى، فهي نموذجيةٌ بالأكثر وتؤكد على أنَّ كل شيء مُخططٌ مُسبقاً، وأنَّ خلف كل حدث ذا أهمية أو ظاهرة ما أياد خفيّة تتحكم بما يحدث على خشبة مسرح واقعنا المُعاش. هذه الحاجة المُلحة لدى جمهور واسع من الناس لتفسير الظواهر والتطورات التي تشهدها المُجتمعات البشرية حول العالم على أنَّها نتاج مجموعة من الأفراد الذين يختبؤون خلف الستار ويقودون الأحداث ويختلقون التطورات ويؤثرون فيما يجري حولنا سلباً خدمة لمصالحهم الخاصّة أو لخدمة مجموعات نافذة تعمل لديها، يخولهم للعب دور الضحية والمنقذ في آنٍ معاً على نحو جيد؛ فهم من جهة ضحايا المؤامرة ومن جهة أخرى المُنقذون الذين تمكنوا من فضح سر المؤامرة. هذا النمط من التفسير يعتمد بالأكثر على ربط الواقع بواقعٍ آخر لا نراه ولا نلمسه وهو غريبٌ عنا نحن البشر العاديين أو حتّى السذج – حسب زعم المتشبثين بنظريات المؤامرة – مِمَّنْ هم عن خيوط المؤامرة المُحاكة غافلون، لا يعلمون من الأمور سوى ما يظهر منها. من هُنا يتبدى لنا جلياً أنَّ عدم قدرة هذه الشرائح من الناس على تفسير الواقع تفسيراً علمياً صحيحاً، يدفعها لخلط الأمور خلطاً مُتعمِّداً، واستنتاج ما لا يُمكن إثباته مُطلقاً.
ولما كانت هذه الشريحة المُتشبثة بنظريات المؤامرة تؤمن إيماناً راسخاً بأنَّ عدم قدرة العلم الحر على دحض الشيء يعني ثبوت حقيقته، فإنَّ الأمور تزداد سوءاً أكثر فأكثر. فمثلاً لو طلب أحدهم إليَّ أن أثبت له وجود كائنات غريبة لها أجنحة كثيرة وعيوناً متفاوتة الحجم وأرجلاً لا تشبه أرجل الإنسان والحيوان، وصفات غريبة أخرى. ففي حال فشلت فهذا يعني أنَّ هذا الكائن موجود من مبدأ “ما لا يُمكن دحضه فهو حقيقي”. ولكن دعونا نُعيد صياغة السؤال ونتبادل الأدوار لبرهة. بإمكاني أن أطرح السؤال نفسه على محاوري قائلاً: “اثبت لي إذاً وجود كائن مثل الذي جاء في توصيفك”. فإن كان جوابه: “لا أعلم” أو أنَّ هذا الكائن ورد ذكره في نص مقدس ما أو ما شابه، فسوف ينتصر محاوري على العلم الحر انتصاراً بخساً لدى من سيباركون له نصره هذا.
نظراً لافتقار المُجتمع الكُردي لثقافة أحزاب عصريّة مُتنافسة فيما بينها لتقديم الأفضل، وتلتزم في الآن نفسه بقيم عُليا جامعة تمنعها من فض الخلافات السياسية بطرق عدائية وبعيدة عن جوهر الديمقراطية، فقد شكل هذا الواقع أرضاً خصبة لنظرية مؤامرة تلقى الآن رواجاً لدى من لهم موقفٌ سلبي من قنديل. نظرية المؤامرة هذه تنص على أنَّ حزب العمال الكُردستاني حزبٌ مُصنّعٌ في مختبرات السياسة التركية، وقد أوكلت له أنقرة خصوصاً، ومن وقت إلى آخر كلٌ من دمشق وطهران مهمة إضعاف الشعور القومي لدى الكُرد. كما أنَّ حزب العمال ذريعة جيدة بيد تركيا لملاحقة الكُرد أينما كانوا وحرق قراهم وتدمير بيوتهم وتصفيتهم جسدياً وإبادتهم ثقافياً. وحالما تنتهي مهمة الحزب فسينتهي هو الآخر من تلقاء نفسه، وهذا ما يفسر – بحسب المؤمنين بهذه السرديّة – بقاء الحزب حتّى الآن وعدم قضاء الجيش التركي عليه نهائياً. فضلاً عن أنَّ هذا الحزب جاء خصيصاً لضرب وشل الحركة التحرريّة الكُرديّة الحقيقيّة – في إشارة إلى أربيل – وتشتيت الكُرد وإلهائهم عن المطالبة بدولة قوميّة.
إنَّها نظرية مؤامرة غنية بالتفاصيل ولها جمهور واسع يؤيدها ويؤمن بها إيماناً راسخاً. وهي تعتمد على مجموعة من المعلومات والمعارف التي لا يُعرف لها مصدرٌ معين، وهي مدفوعة بدافع استفزازي عدائي يخلو من أي تحليل أو أسئلة مشروعة بالإمكان مُناقشتها.
في البحث العلمي الخاصّ بنظريات المؤامرة هُناك توجهٌ عام يفيد بأنَّ نظريات المؤامرة تنشأ في زمن الأزمات والصراعات، وحين لا يجد الناس أجوبة على أسئلتهم المُلحة، فيلجؤون إلى حَبكِ وصياغةِ نظريات مؤامرة لتفسير الواقع المُعقد بتفسيرات سهلة ساذجة. كأن نقول مثلاً أن حزب العمال الكُردستاني هو الذي يقف خلق كل الهزائم التي لَحِقَت بالكُرد حتّى الآن.
مما لا شك فيه أنَّه هُناك مؤامرات تحصل تخططها مجموعات نافذة من حقول السياسة والاقتصاد لتحقيق نتائج مُعينة تُرضي مصالحها. نذكر منها على سبيل المثال “فضيحة ووترغيت”، حيثُ تجسس الرئيس الأمريكي السابع والثلاثون ريتشارد نيكسون على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس لغايات حزبية. ولما تم ضبط المتآمرين والمشتركين مع نيكسون استقال الرئيس الأمريكي من منصبه على الفور، وتمت مُحاكمته. على منوال مغاير يُمكن اعتبار قضية اختطاف واعتقال عبد الله أوجلان خطة تآمرية من لحظة خروجه من سوريا قسراً – بناءً على ضغط تركي سبقه تنسيقٌ سوري – وحتّى لحظة اختطافه إلى نيروبي واعتقاله.
ختاماً يُمكن تلخيص ما ورد أعلاه بالنتائج التالية: أولاً: نظرية المؤامرة القائلة “بِعَمَالةِ” حزب العمال الكُردستاني هي كغيرها من نظريات المؤامرة الأخرى التي عرفتها المُجتمعات البشرية، والتي تسعى لتفسير مسائل على غاية من التعقيد بتوضيحات سطحية وساذجة لا تستند إلى أي أساس، كما ولا تُثير تساؤلات وإشكاليات مُهمة يُمكن مناقشتها. ثانياً: المؤامرة ظاهرة نلمسها في واقعنا، ولكنها محدودة ومن الصعوبة فصلها عن العمل المُشترك أو التنسيق السري المُشترك بين جهات مُعينة. فجميع نشاطات أجهزة المخابرات مثلاً تتمتع بطابع سري، وعليه فإنَّها أرض خصبة لوصفها بالتآمرية من جهة، كما وبالإمكان نعتُها أيضاً – نظراً لطبيعتها وأهميتها – بأنَّها عبارة عن عمل سري مُشترك.