ملخص
المهم أن كين لوتش صامت الآن لكن بالتأكيد لأسباب صحية ومن دون أن نعرف ما إذا كان يستعد، مثلاً، للعودة ليقف وراء الكاميرا والأرجح أنه لن يفعل وسيعتبر كثر هذا الاستنكاف القهري خسارة كبيرة لا سيما مهرجان “كان” السينمائي الذي عرض له معظم أفلامه في دورات عدة ومنحه جوائز عدة كبيرة.

لا ريب أن قعقعة السلاح التي لا سابق لها في أوروبا في الأقل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وتدمير الجيش واليمين الإسرائيليين لغزة رداً على عمليات “حماس” وتحضيراً لتوجيه ضربات منشودة من قبل هذا اليمين للقضية الفلسطينية نفسها أو ما تبقى منها في الأقل، لا تمنع، أي تلك القعقعة المهيمنة على كل صوت اليوم، كثراً ممن تبقى في رؤوسهم شيء من العقل التساؤل بدهشة: “أين ذلك المبدع مما يحدث؟ ولماذا لا نسمع له صوتاً؟”. والمبدع المعني هو بالطبع كين لوتش آخر الكبار البقية من جيل الستينيات والسبعينيات الذهبي في السينما الشريفة في بريطانيا، لوتش الذي يلقب عادة بـ”آخر اليساريين المحترمين” وعرف باعتباره من قبل السلطات الإسرائيلية شخصاً غير مرغوب به.

في خلفيات صمت لافت

الملاحظ اليوم هو أن لوتش صامت غير أنه ليس صامتاً في حقيقة الأمر تجاه ما يحدث داخل غزة هو الذي يعتبر صديق الفلسطينيين الأكثر وفاء، أو تجاه الحرب التي تشنها موسكو على أوكرانيا وهو الذي يعتبر أكثر من ذلك مناصر المظلومين في العالم بحمله آخر ما تبقى من قيم أخلاقية يسارية يبدو أن لا مكان لها في عالم اليوم، بل هو صامت بالمعنى المطلق للكلمة ومنذ زمن لأسباب صحية تنبع من تقدمه في السن. تقدم منعه قبل عام من الآن وأكثر من حضور واحد من أكبر التكريمات التي أقامها له مواطنوه تحديداً في مدينته برمنغ في مناسبة عرض أقيم هناك لفيلمه، الأخير (حتى الآن) “ذا أولد أوك” الذي كان موضوعه هجرة المقتلعين من بلادهم بسبب الحروب والأوضاع الاقتصادية، السوريون في الفيلم.

 

عندما حاول براناه إحلال أغاثا كريستي بديلة لشكسبير في عالمه السينمائي
يومها غاب لوتش عن العرض وقد منعته صحته من تلبية الدعوة ليحضر مكانه شريكه في الكتابة السينمائية والنضال السياسي بول لافرتي، طالباً من الحضور أن يدعوا له بدوام الصحية والعودة ليقف وراء الكاميرا متحفاً السينما العالمية بتلك الأفلام التي لا تزال تؤمن بدور الفن السابع في إصلاح العالم.

ونحن نعرف بالطبع أن كين لوتش لم يتوقف خلال نصف القرن الذي مر عليه بين فيلمه الأول “البقرة البائسة” (1968) وفيلم “ذا أولد أوك” قبل ثلاثة أعوام من الآن، عن وضع سينماه في خدمة القضايا الكبرى التي آمن دائماً بعدالتها إذ باتت سينماه هذه كأنها سجل يدون بؤس العالم وظلمه.

سينما لبائسي العالم

في نحو دزينتين من شرائطه عرف لوتش كيف يدنو بقوة وغالباً بعمق من مجمل القضايا التي سادت العالم في زمنه، ولكن في بعض المرات بزمن سابق على زمنه فقط ليضيء على ما يحدث من حوله. وهذا الدنو هو الذي جعل محبيه يلقبونه بـ”آخر اليساريين المحترمين” كما نعرف، ففي النهاية يمكن القول إن ما من قضية عادلة بدءاً من المسائل العائلية ومثالب التحليل النفسي والمسألة الإيرلندية والصراعات الاجتماعية وتدهور أوضاع الضمان الاجتماعي والطبقة العاملة وغير ذلك من مسائل طاولت أوضاع بائسي العالم وليس فقط في الدول الفقيرة بالطبع، أفلتت من نظرة كين لوتش الذي حين لا يصنع أفلاماً يحرص على مشاهدة ما يصنعه سينمائيون يسيرون على دربه فيدعمهم ويشجع محبيه على تشجيعهم. ومن هنا يشاهد دائماً في لندن يحضر عروض الأفلام الفلسطينية، على سبيل المثال، ويناقش فيها أصحابها كما يمكن لمي مصري أو رشيد مشهراوي أن يشهدا بين آخرين.

هل يعود يوماً؟

المهم أن كين لوتش صامت الآن لكن بالتأكيد لأسباب صحية ومن دون أن نعرف ما إذا كان يستعد، مثلاً، للعودة ليقف وراء الكاميرا والأرجح أنه لن يفعل وسيعتبر كثر هذا الاستنكاف القهري خسارة كبيرة لا سيما مهرجان “كان” السينمائي الذي عرض له معظم أفلامه في دورات عدة ومنحه جوائز عدة كبيرة وتنويهات، ناهيك عن مجال محاورة النقاد والجمهور، كما منحه خاصة سعفتين ذهبيتين جاعلاً منه واحداً من مخرجين عالميين نادرين نالوا هذه الميزة، وذلك عن فيلمين كبيرين له أولهما “الريح التي هزت حقل الشعير” (2006) والثاني “آسفون… لقد نسيناك مرة أخرى” قبل أعوام قليلة.

وهنا نتوقف عند الفيلم الأول الذي يبقى على حدة في فيلموغرافيا كين لوتش وواحداً من الأفلام الكبرى في تاريخ ما يمكننا أن ندعوه السينما السياسية التاريخية الكبرى، بل حتى الفيلم الوحيد الذي عالج فيه موضوعاً تاريخياً ليس مستقى من الواقع الحالي المباشر حتى وإن كان يتناول واقعاً شائكاً وهو المسألة الإيرلندية.

AFP__20060523__DV44988__v2__Preview__FranceCinemaCannesFestival2006TheWindThatShakes.jpg
الممثلان الإيرلنديان سيليام ميرفي (يسار) ووليام كننغهام يحيطان بالمخرج البريطاني كين لوتش أثناء عرض فيلمهما “الريح التي هزت حقل الشعير” في الدورة الـ59 لمهرجان كان (أ ف ب)

ونحن نعرف على أية حال أن لوتش قد تناول تلك المسألة في عدد من الأفلام لعل أشهرها قبل الفيلم الذي نتناوله هنا، “الأجندة الخفية” (1990) وبعده “جيمي هيل” (2014)، غير أن “الريح التي هزت حقل الشعير” يبقى أقوى أفلامه “الإيرلندية” بل ربما أقوى أفلامه على الإطلاق بتاريخيته وواقعيته بل حتى ببريختيته التي أخرجت سينماه لمرة من حكاية البطل الوحيد المتخيل إلى عالم السينما التي تحكي التاريخ كما حدث فعلاً ومن طريق فاعلين حقيقيين وأحداث حقيقية، فلا يفوت لوش أن يقول مرة إنه ما دنا من التاريخ هذه المرة إلا تيمناً بالحرية التي منحها الجزائري محمد الأخضر في فيلمه ذي السعفة الذهبية في “كان”، “وقائع سنوات الجمر” 1975، ومن هنا لن يكون غريباً أن يجابه فيلم لوتش ومن قبل الإيرلنديين أنفسهم أكثر مما جوبه من قبل “أعدائهم” الإنجليز تماماً كما جوبه “سنوات الجمر” من قبل الجزائريين بأكثر مما جوبه من قبل الفرنسيين وبخاصة حين كانت سعفة “كان” من نصيب كل من الفيلمين.

تاريخ استثنائي واضح

المهم أن فيلم لوتش الذي أقدم فيه مع كاتبه المفضل لافرتي ومنتجته ورفيقته في نضالاته ريبيكا أوبراين، على التصدي للتاريخ الجماعي سياسياً وبوضوح هذه المرة في تلك اللغة الفنية البريختية التي كان الثلاثة كثيراً ما أعلنوا تمسكهم بها من دون أن يفعلوا ذلك حقاً في أي من أفلامهم المشتركة قبل هذا الفيلم الاستثنائي، هذا الفيلم كان ذا خلفيتين لأن لوتش كان قد تحدث عنهما دائماً في معرض إجابته عما يطرح عليه من أسئلة بصدد الفيلم، فإن لافرتي كان أوضح منه وهو الأكثر منه إيرلندية إذ حدد، وهو مشاركه في كتابة السيناريو، من ناحية أن الرغبة في تحقيق هذا الفيلم نبعت من قراءتهما المشتركة لنصوص كتبها الفرنسي غي ديبور حول السينما الثورية محدداً شروط إنتاجها، ومن ناحية ثانية من أنه هو نفسه كثيراً ما كانت تخامره الرغبة في تحقيق فيلم عن التاريخ الإيرلندي في إيرلندا نفسها “فأنا من ناحيتي كنت دائم الانبهار بتاريخ هذا البلد انطلاقاً من ذكريات طفولتي التي طبعتني دائماً في أعماقي. ومن هنا بعد أن تداولنا، كين وأنا، عدة إمكانات ومقترحات في هذا المجال وجدنا أن أنسب شيء بالنسبة إلى فيلم نحققه حول تلك المسألة أنه لا بد أن يكون فيلماً تاريخياً حول مرحلة الحصول على الاستقلال وما تلاها من انتخابات عام 1918 تحولت إلى حرب أهلية. وكنا مدركين منذ البداية أن تعاطينا السينمائي مع تلك المرحلة التاريخية سيتيح لنا الدنو الصريح من عدد لا بأس به من المواضيع والأسئلة الشائكة لا سيما منها أن نعيد طرح ليس فقط ما يتعلق بما الذي يجابهه أولئك الإيرلنديون في نضالاتهم، بل ماذا كان نضالهم واختياراتهم بالنسبة إلى وسائل النضال وأشكاله”.

سياسة في السينما

بكلمات أخرى، وتحديداً بالنسبة إلى الكاتبين كان اختيارهما السير على درب الأفكار التي عبر عنها الفرنسي ديبور في تحديده لـشروط صنع السينما الثورية السياسية، عملاً ينتمي إلى الكتابة السياسية بأكثر مما فعلا من قبل، وتحديداً من خلال تعدد الأصوات والبؤر الحدثية وتنازع الشخصيات فـ”التاريخ لا يمكن أن يصنعه بطل واحد، ولا حدث واحد، ومن هنا يقول لافرتي محدداً، لم نقدم في هذا الفيلم على إنتاج عمل آخر عن الثورة الإيرلندية، بل حققنا عملاً سياسياً عن ذلك البلد وتاريخه ولعل هذا هو الجديد في سينمانا الذي جعل للفيلم مكانته الاستثنائية في تاريخ هذه السينما”.