في تلك الطبيعة التي لا يقيم فيها إلاّ نحن والأشجار، لاحظنا شيئاً غريباً منذ اليوم الأوّل لصدورنا عن الله. ذاك أنّ الأشجار تراقبنا وتغار منّا. ومع أنّ نفوسنا كانت تثبِّطنا، وتقول لنا إنّ لغزاً يحيطنا من الجهات كلّها، فقد كان ينتابنا شيء من السعادة لوقوعنا في منطقة وسطى بين الحياة والموت هي مثل فقرة طويلة بين نصّين تأسيسيّين. وأن نكون نحن تلك اللحظة النحيفة لالتقاء النقائض، فهذا ما قد ينقذنا من أن نكون أيّاً منها.
وكنّا محظوظين إذ وهَبَنا البحر حياة ووهَبَنا النهر حياة أخرى، فكيف لا نكون سعداء؟ ثمّ عثرنا في دواخلنا على سرٍّ، مع أنّ السرّ هذا ما لبث أن أربَكنا: فقد أقام في كلّ واحد منّا آلاف الرجال والنساء السيّئين وآلاف الرجال والنساء الجيّدين. فمن نكون نحن إذاً؟ وكان ما يزيد الحيرة أنّ هؤلاء المجتمعين فينا يخوضون حروباً لا تؤدّي إلى سلام، ما قد يفسّر استعدادنا الأبديّ للجنون.
لقد ألّفَنا الآخر كأنّنا معزوفة من نشاز، وها نحن نحاول رغماً عنه أن نجعل نفوسنا ممكنةً، وأن نرى في الهواء أموراً غريبة، وأن يرانا الهواء بوصفنا ألواناً فحسب. هكذا رحنا نبحث في هذا الكون عن وجوهٍ ودودة، فعشقنا وخفنا على من نحبّهم أن يموتوا، وخفنا أن يأخذوا معهم المستقبل، ونُترك نحن عراةً كدودة.
لكنّ زمن العشق ذاك كان قديماً، ولأنّه كذلك كان لدينا حبٌّ نتشبّث به كما يفعل القدامى. لقد تعاهدنا على أن نرحل معاً في المساء ما دمنا قد جئنا معاً في الصباح. وفي هذا السياق ربّينا الصمت وهندسناه على أمل أن نجعله صوتاً حين نحتاج إلى صوت، وجعلنا نسابق أعمارنا ونتأمّلها فيما هي تسبقنا.
لكنّنا اليوم واحدٌ من اثنين: إمّا رجل يبكي كطفل، أو طفل يبكي كرجل.
(2)
مع هذا نبّهتنا الأحلام إلى أنّ لديها ما قد يُعزّينا. فالبشر كلّهم يزوروننا في الأحلام كأنّهم لاجئون طُردوا من الأمكنة جميعاً واختبأوا تحت وساداتنا. وفي الأحلام نسيطر عليهم، ونفعل بهم ما نشاء، كأنْ نستردّهم أو نحبّهم أو نقتلهم مرّة أخرى عبر معسهم بوساداتنا. لهذا نصحنا كارل يونغ بأن نضع دفتراً قرب رأسنا عندما ننام ونكتب أحلامنا فور مجيئها إلينا. لقد قال كما يقول المعلّمون الكبار: إيّاكم أن تنسوها لأنّكم بنسيانها تنسون أنفسكم.
ونبّهتْنا الطبيعة أيضاً إلى الشيء نفسه، فطالبتنا بأن نراها، إن لم يكن حبّاً بها، فمن أجل السيّد فان غوخ. وقالت لنا: اركضوا في أنحائي وفي شساعتي، فكلّ مسافة تقطعونها تضيف صوتاً إلى أصواتكم، واجعلوا نهاراتكم تبدأ مثل مزاح يتحوّل بالتدريج إلى جَدّ، وهلّلوا لغيمة تحتفل بفستانها الملوّن.
(3)
لكنْ ماذا نفعل بالحروب التي تبرهن لنا أنّ الذي يقتلنا أقوى من ذاك الذي خلقنا؟ ماذا نفعل بالحروب؟ ماذا نفعل بمَن يشعل ناراً تأبى أن تنطفىء، أو مَن يطفىء ناراً تأبى أن تشتعل؟ وماذا نفعل حينما الحياة تُفسد السيناريو، فنرى رفاقنا الأحياء يتسكّعون بربطات عنق ويستعيرون كثيراً من الجنون كي يصبحوا شعراء؟
هناك أيضاً حلٌّ لهذا كلّه قد يُخرجنا من اللغز ويوضِحنا: لتكن الحرب ذريعتنا كي نستأنف عاداتٍ كتمشيط شَعر اللعبة البلاستيكيّة. فنحن لم نعد نفرح كما يفرح آباؤنا، ولم نعد نحزن مثلما كانوا يحزنون حين يعودون من مأتم العصافير. والآباء، كما نذكر، كانوا ينبّهوننا إلى أنّ الاطمئنان الوافد من تجنّب الحياة ليس اطمئناناً، فكلّ ما تفعله تلك الطمأنينة هو أن تجعل السنوات ذات أشهرٍ أقلّ فيما تجعلنا نحسّ أنّها أطول. وكانوا يقولون لنا مُهدّئين جموحنا أنّ الميّت يمكنه أن ينتظر، أمّا نحن فعلينا أن نسرع: استأجروا درّاجة ناريّة تقلّكم إلى سطح القمر، وامحوا من الزمن أوقاته التافهة كالحادية عشرة قبل الظهر والخامسة بعد الظهر، فهاتان الساعتان صنعهما الدجّالون كي يقرأوا فيهما أخبار انتصاراتهم المجيدة.
(4)
إذاً تاريخ انتهاء صلاحيّتنا لم يحنْ بعد. فلنحاول. وقد نصبح من جديد أغنياء إذا سلّمَنا البحر جثث موتانا الذين أقاموا فيه. علينا فعلاً أن نحاول.