كل شيء تغير، فينا ومن حولنا، تغير مفهوم الجغرافيا، إذ الحدود ما عادت الحدود التي كانت ذات زمن بين البلدان وبين المدن، أسقط الرأسمال العابر للقارات ببنوكه وشركاته وجشعه الحدود التقليدية، وفي المقابل، رفع حدوداً أخرى افتراضية وهي الأقوى والأشرس والأعنف، تغير مفهوم الزمن كثيراً أيضاً، فالدقيقة ما عادت بمثقال الدقيقة القديمة كما كنا نعيشها في القرن الماضي، والسنة أضحت أطول من 365 يوماً بكثير، كل المعادلات والثوابت اهتزت ومعها ضرب الزلزال القيم والأدب والجما
كان للطماطم موسم واحد في السنة وللفلفل والخيار لهما موسمهما أيضاً، كنا ننتظر حلول الموسم على أحر من الجمر كي نستمتع بالطماطم مشبعة بالشمس، كنا نعرف المواسم بوصول الفاكهة الجديدة أو الخضراوات إلى السوق، للصيف فاكهته وللخريف فاكهته وللشتاء والربيع مثل ذلك، اليوم ما عندنا ننتظر موسم العنب في الصيف ولا موسم الدلاع (البطيخ) والخوخ والمشمش والبرتقال والبازلاء، كل هذه وغيرها تحضّر على مدار السنة في الأسواق من دون دهشة، معلبة ومطلية قشورها بمرهم لماع كمرهم صباغة تلميع الأحذية، كل شيء اختلط علينا وفينا، زراعة البيوت البلاستيكية تغزو الأرض وتقلب تقاليد الفلاحة وثقافة الفلاح، تفرخ الفواكه والخضراوات في غير موسمها المعتاد، في كل يوم، شتاء وصيفاً خريفاً وربيعاً، لا يهم. وجراء ذلك، كل شيء تغير فينا أيضاً، تغيرت عاداتنا في الاستهلاك وفي الذوق، تغيرت أحاسيسنا، مشاعرنا، لغتنا، انتفت رغبة الانتظار لدينا، زالت شهوة الاكتشاف التي تزرع السعادة والحلم وطاقة المفاجأة.
إن الأيام تشابه علينا!
كما في الطبيعة حيث زراعة البيوت البلاستيكية أنتجت غلالاً بهية الشكل كبيرة الحجم لكنها مغشوشة المضمون ممجوجة المذاق، كذلك أنتجت برامج بيوت التكنولوجيا الاستهلاكية وجنون وسائل التواصل مصفوفة من الأجيال الفنية والأدبية مختلطة وهجينة وضائعة.
لم يعد للجيل الأدبي معنى ولا تقاليد، لا هو في القطائع ولا هو في التوابع، كل شيء تم اختراقه وتسفيهه، كان التواصل والحوار والاختلاف والخصام بين الاجيال يسير بكثير من التوازن والتبادل والإيجابية، يتجاور جيلين أدبيين أو أكثر ليعيشا في تناغم وتناسق وتنافس وصراع، يختفي جيل ويظهر جيل جديد آخر، تنسحب أسماء أدبية أو تتراجع إلى الخلف لتسمح لأسماء أخرى بالتموقع في الأماكن الأولى، كل ذلك كان يحدث بإيقاع ثقافي وأدبي متناغم، وفي لعبة الأجيال هذه هناك أسماء تخترق سلسلة الأجيال المتلاحقة كلها لتظل ذاكرة للجميع، اليوم كل شيء اختلط، يولد جيل، تظهر أسماء أدبية، تعيش شهراً أو بضعة أشهر ثم تختفي، أسماء تظهر كالبرق ثم تختفي بأسرع من عمر البرق.
بين الأسماء الأدبية التي تشكل جيلاً أو جيلين كانت هناك مراسلات شخصية أو عمومية، وكان للحوار دفؤه الإنساني والثقافي والمعرفي واللغوي، اليوم اختفى أو يكاد هذا السلوك الحضاري البديع أو ندر، وأصبح التراسل عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي غارقاً في البرودة والصنعة الخارجية المفتعلة.
نعم كانت الحياة جميلة، الحياة الأدبية والاجتماعية، هذه ليست نوستالجيا، إننا ندرك جيداً ما عشناه كجيل أدبي وما عاشه الجيل الذي سبقنا من معاناة وفقر وحاجة وأتعاب وحصار أنظمة سياسية مقفلة، نظام الحزب الواحد، لكن مع ذلك، وفي ظل هذا الشقاء كان للحياة طعم العسل البري، كان الأدب طريقاً إلى النجاة، طريقاً إلى الخلاص، طريقاً إلى الحلم.
كانت الكتابة تقف بين الروح والجسد، بين العين واليد.
عاش جيلنا الأدب ومارسه كنضال ثقافي، نحن جيل لم يكن يرى في الكتابة والثقافة بهرجاً أو “بريستيج”، كنا لا نفرّق بين النضال الفكري والاجتماعي والكتابة، الكتابة إضافة إلى جمالها الأدبي واللغوي فهي نضال من أجل العدالة والحرية والمساواة بين الرجل والمرأة.
اليوم كل شيء متسرّع، مهتز، كل شيء يعيش ثقافة “الفاست فود”، الكتابة كما العشق كما المواقف كما القراءة كما العلاقات الإنسانية، كل شيء معرض لمجرى ريح خطرة، للاختراق، للفناء في اللحظة التي يولد فيها، الحياة الثقافية تشبه كتابة “ميساج” (رسالة) إلكترونية ومحوها في الوقت نفسه.
المنفعة قتلت الجمال.
الصور التي نراها على الشاشات أو تصلنا من عند الصديقات والأصدقاء، من عند الكتاب والكاتبات، لم تعد تطمئن، لم يعد فيها من بهاء الزمن الجميل قسط، فهي مدخولة، معدلة، مزوقة، فاقعة بالضوء واللون والتدوير والتكوير، كل شيء مصطنع، مصنع، فقدت الصور التي نشاهدها على شاشات هواتفنا عفويتها وقوتها الطبيعية الصادقة الناطقة بالحياة، كانت صور الأدباء والأديبات بديعة وصادقة وجذابة، في الأسود والأبيض، في الألوان. اليوم كل شيء ينبت في بساتين البيوت البلاستيكية؟
نعم كانت الحياة جميلة.
كانت الحياة جميلة حتى وهي في شقائها، حتى ونحن كـ “إيزيس” نرفع الصخرة إلى أعلى الجبل فتسقط ونرفعها ثانية، كان الكتاب والأدباء يلتقون، تجمعهم ملتقيات بسيطة ولكنها عميقة بإنسانيتها وبأسئلتها، وكان اللقاء أكثر من احتفال بالأدب فقط، إنه احتفال بالحياة الأدبية وبالأديب وبالكتابة وبالبلد المحلوم، كنا نسافر الليل بطوله كي نلتقي بأديب، أو كي نقتني كتاباً، أو نستمتع بأمسية شعرية، اليوم هذا الوهج اختفى أو يكاد.
لقد تغير مفهوم الأديب الروائي أو الشاعر، تغيرت صورته أيضاً، فأصبح في ظل سوق الإعلام الرقمي والتكنولوجي المتهافت، أصبح الأديب يفكر كما يفكر “المؤثرون”، يريد أن يكون نجماً على طريقة النجوم المؤثرين والمؤثرات، يريد أن يُحتفى به هو أكثر من الاحتفاء بنصوصه، الظاهر غلب على الباطن.
لقد تغير سلّم القيم كثيراً، وتغيرت المرجعيات، حتى بدت الساحة مليئة بالكُتّاب وفارغة من المبدعين، مليئة بالكتب وقاحلة من الإبداع.
هذه ليست محاكمة هذا الجيل أو ذاك، ليست انحيازاً لجيل مضى أو لجيل يجيء، إنها قراءة في طبيعة عنف التاريخ الذي لا يمكننا أن نهرب منه، ولكن يمكننا أن ننقذه أو نعدل من مسار جريانه الهادر.