كان يجلس في مقهى صغير على أطراف المدينة الألمانية، يُحدّق عبر الزجاج في الشارع الرمادي. شتاءٌ ثقيلٌ، وعيونٌ عابرة لا تلتفت، وحده، كمن يراقب ظلّه من بعيد. خلفه أوراق إقامة رسمية، وأمامه حياة لا تزال موصدة…؟
لم يكن هذا ما تخيّله حين حمل حقيبته ورحل. يوم كانت عيون أمه تلاحقه بخوفٍ صامت، وأبوه يربّت على كتفه دون أن يقول الكثير. كان أحمد حينها مقتنعاً أن التعليم، وحده، كفيل بفتح الأبواب المغلقة. كان يؤمن أن الماجستير أكثر من شهادة، يرى فيه عبوراً من ضيق الجغرافيا إلى اتساع المعنى.
في دمشق، بدأ كل شيء. بحثه عن فرصة، عن مقعد دراسي، عن وطن افتقده طيلة سنوات . كان يمضي نهاراته بين السفارات، ولياليه بين الكتب. يتعلّم الإنكليزية كمن يتمرّن على النجاة. ثلاثُ سنواتٍ من الانتظار، لم يقطف ثمرةً، لكنها لم تكسر الرغبة ولم تُضعف الإرادة …!
ثم جاء الفرج . لقاءٌ في إحدى السفارات، وحديثٌ صادقٌ مع السفير ، لم يقدّم أحمد فيه نفسه كبطل، بل كطالب أنهكه الطريق، وعضّه الواقع ، وربما، لهذا السبب بالذات، فتح الرجل الباب، ومنحه فرصة للذهاب إلى (دولة أوروبية ).
لم تكن الرحلة مجرّد انتقال جغرافي. بل قفزة في الحلم. بدت البلادُ الجديدةُ كخريطةِ خلاصٍ، لكن الجسد خانه في المنتصف. عيونه ُبدأت تَضعف، والألم صار رفيقاً ثقيلاً. لم يعد قادراً على القراءة، ولا على التحصيل، ولا حتى على مجاراة طلاب الصف.
ببطءٍ، انكمش العالم من حوله. لم يكن الفشلُ ناتجاً عن تقصيرٍ، بل نتيجة جرحٍ لا يُرى. ولما ضاقت الخيارات، قرّر أن يجرٌب آخر أوراقه : ألمانيا.؟
في مركز اللجوء، أخبروه بما اعتاد اللاجئون سماعه: “اصنع قصة. لا تقل الحقيقة، فالصدق لا يُطعم خبزاً” لكنه لم يساوم. روى قصته كما حدثت، دون رتوش. صِدْقَهُ لم يشفع له. القاضي كعادة النظام، فضّل الورق على الإنسان، وقرّر إعادته إلى مكانه …!
ورغم ذلك، لم يرفع الراية. أوكل محامياً، وخاض المعركة حتى النهاية. بعد أكثر من سنتين من المرافعات، حصل على الإقامة. نصرٌ قانونيٌ صغير، لكن الروح كانت قد أنهكها الانتظار.؟
اليوم، يجلس في زاوية المقهى ذاتِها، يتأمّل الزمن. لا شهادة، لا عمل، لا ملامح واضحة للمستقبل. ومع ذلك، لا يُشبه المهزومين. في عينيه بريقُ عنادٍ خافتٍ. لا يزال يُؤمن أن من تمسّك بالصدق، لن يغرق. وأن الحلم، وإن تأخر، لن يذبل أبداً…!
ورغم عدم اكتراث المدينة به . يعيشُ في داخله، رجلٌ لم يُهزم….!