أكبر حاملة طائرات حول العالم "جيرالد فورد" تتزوّد بالوقود في شرق المتوسط. (أ ف ب)

أكبر حاملة طائرات حول العالم “جيرالد فورد” تتزوّد بالوقود في شرق المتوسط. (أ ف ب)

مع بداية الشهر الثاني للحرب الإسرائيليّة على غزّة، تبدو الولايات المتحدة في موقف صعب. هي الدولة الأقدر على وقف الحرب إذا قرّرت ذلك؛ لكنّ الحسابات معقّدة. نظرياً، تستطيع الإدارة الأميركيّة الضغط على الحكومة الإسرائيليّة لوقف القصف. هذا ما فعلته سنة 2021: بعد تسعة أيّام من الهجوم الإسرائيليّ، قال الرئيس جو بايدن لرئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو إنّه ليس قادراً على دعم عمليّته في غزّة بسبب ضغط الرأي العام. بعد يومين، أُعلن عن وقف اطلاق النار

هذه المرّة، الأمر مختلف بعض الشيء. عدد القتلى الهائل الذي خلّفه هجوم 7 أكتوبر يقيّد قدرة الإدارة على كبح جماح الإسرائيليّين، وبخاصّة لأنّ ثمّة قتلى وأسرى أميركيّين. هناك تشديد من الجانب الأميركيّ على ضرورة تحييد المدنيّين بمقدار ما أمكن، لكنّ 10 آلاف ضحيّة في شهر واحد لا يجسّد بالضبط طموح الإدارة في هذا المجال. كذلك، سيكون الإسرائيليّون أقلّ ميلاً للإصغاء للنصائح والضغوط الأميركيّة، بما أنّهم تكبّدوا 1400 قتيل.

ترفٌ مفقود

يلوح احتمال جدّي في أن تطول الحرب على غزّة لأشهر. سبب ذلك أنّ خطة مفترضة لدى الإسرائيليّين تقوم على دورات متتالية من القضم والتراجع. يعني هذا أنّ كلّ ما على واشنطن فعله في المرحلة المقبلة، إن صحّت هذه الفرضيّة، أن تراقب ما إذا كانت إسرائيل ستتمكّن من السيطرة على شمال غزّة سريعاً. في الوقت نفسه، ستحافظ الولايات المتحدة على الخطوط الدبلوماسيّة السرّية لإيصال رسائل الدعم والتحذير والشجب. إذا كانت إسرائيل قادرة على انتظار مدّة طويلة لإنهاء عمليّاتها العسكريّة، بما أنّها المعنيّ الأوّل بالهجوم، فالولايات المتّحدة تفتقر إلى هذا الترف.

لا تستطيع القوّة العظمى أن تتفرّج على استعار نزاعين كبيرين دفعة واحدة. بالرغم من الدعم العسكريّ الذي كسر خطوطاً حمراء روسيّة، نجحت الولايات المتحدة في حصر الحرب على أوكرانيا. ويبدو أنّها نجحت لغاية اليوم في منع انفلاش الحرب على غزّة إلى حرب شرق أوسطيّة، على الأرجح بفعل الأصول العسكريّة الهائلة التي أرسلتها إلى المنطقة. مع ذلك، تظلّ احتمالات التصعيد قائمة. ثمّ هناك عين دائمة على مضيق تايوان. بدأ البعض يتحدّث عن أنّ الحرب الباردة بين الأميركيّين والصينيّين تسخين  في منطقة المحيطين الهنديّ والهادئ. لكنّ مكانة أميركا لا تتعلّق فقط بمنع انفلاش النزاعات بل بالقدرة على إنهائها أيضاً، إن لم يكن أيضاً إنهاء أسبابها.

خيارات ومعضلات

من الطبيعيّ أن تبحث أميركا عن إنهاء الحروب لمصلحة حلفائها وشركائها. في أوكرانيا، تتمتّع أميركا بهامش مناورة محدود. هي لا تستطيع أن تفرض على كييف الذهاب إلى طاولة التفاوض إن لم تكن موسكو مستعدّة لذلك. ففي هذا الضغط ما قد يوحي بأنّ أميركا خسرت لعبة النفس الطويل مع روسيا. في الوقت نفسه، لا تزال الولايات المتحدة ترسل الأسلحة الثقيلة ببطء كبير، ما يحرمها من ورقة قوّة في مواجهة الروس. بهذا، تبقى خيارات واشنطن في الشرق الأوسط أوسع نطاقاً، أو كما يقول البروفسور الفخريّ لدراسات الحرب في كليّة الملك بلندن لورنس فريدمان، إنّ المسار إلى السلام في غزة. هو اقصر  من ذاك الموجود في أوكرانيا.

في ما يتعلّق بالحرب الإسرائيليّة، من المرجّح أن تنتظر إدارة بايدن بضعة أسابيع إضافيّة لمعرفة مسار التوغّل الإسرائيليّ على الأرض، إلى جانب دعوات لهدنات إنسانيّة او وقف تكيكي  لإطار النار من أجل الإفراج عن المحتجزين وإدخال المساعدات الإنسانيّة. حتى الآن، يبدو أنّ إسرائيل نجحت في تقسيم قطاع غزّة إلى قسمين بحيث من المتوقّع أن تركّز جهدها على النصف الشماليّ منه وتحديداً في مدينة غزّة. إذا استطاعت إسرائيل إضعاف “حماس” في ذلك النصف فسيكون من المعقول اعتبار تصنيف الإدارة لهذه الخطوة انتصاراً لها ولحليفتها. في الوقت نفسه، يصعب توقّع منح الإدارة أيضاً ضوءاً أخضر للإسرائيليّين للتوجّه إلى النصف الجنوبيّ من القطاع. العائق أمام بايدن  الوقت . إذا تعرقل تقدّم الإسرائيليّين في مدينة غزّة فسيواجه الرئيس الأميركيّ معضلة: الامتناع عن ممارسة ضغوط جديّة يعني خسارة الحناح التقدمي  في الحزب الديموقراطيّ. والضغط على إسرائيل لوقف الحرب والنجاح في ذلك يعني خسارة حليفته وبطريقة غير مباشرة الولايات المتحدة للحرب. وقد يكون لذلك تأثير على مسار المفاوضات المتوقّعة بعد النزاع.

في الحالة الأخيرة، سيخسر بايدن على أكثر من مستوى. قد ينظر الإسرائيليّون بعين الشكّ إلى عزم إدارته على الدفاع عن إسرائيل، علماً أنّ العلاقة الشخصيّة بين بايدن ونتنياهو لم تكن في أفضل أحوالها قبل 7 أكتوبر. كما أنّ تعثّر إسرائيل في حربها سيعرّضه لانتقادات الجمهوريّين. حتى في حال عدم فرضه قيوداً على الحرب الإسرائيليّة، سيعيد الجمهوريّون اتّهام إدارته بأنّها خفّفت العقوبات عن الإيرانيّين، ما منح هؤلاء القدرة على زيادة دعمهم لـ”حماس” كي تشنّ هجومها. علاوة على ذلك، إنّ خسارة إسرائيليّة قد تنعكس حتى على شعبيّته بين المستقلّين لأنّ الأميركيّين ينتظرون سلبية إلى أدائه في السياسة الخارجيّة.

في الحالة الأولى، أي في حال مواصلة الدعم للإسرائيليّين مع امتداد الحرب إلى 2024، قد يصبح موقع بايدن في الحزب الديموقراطيّ اكثر اهتزازا. لا تزال شعبيّة بايدن منخفضة بين الديموقراطيّين، وما يبقي حظوظه قائمة هو كون منافسه المرجّح دونالد ترامب. لكن مع تحسّن فرص الأخير، يمكن أن يخسر حتى هذه الميزة التنافسيّة.

خيارات خصوم أميركا

ستراقب روسيا والصين المشهد الملتهب في الشرق الأوسط. قد يكون هناك نيّة روسيّة لتبادل خدمات مع الأميركيّين كما يقول الباحث في “كارنيغي”غانوف : تحاول روسيا التوسّط في الشرق الأوسط مقابل تنازل تقدّمه أميركا لموسكو في أوكرانيا. لكنّ المسؤولين الروس مرهقون كي يستطيعوا خوض وساطات كهذه بحسب غابويف. وليس مؤكّداً حتى ما إذا كانت إسرائيل ستقبل بوساطة كهذه بعد استضافة روسيا لوفد من “حماس” عقب هجوم 7 أكتوبر، إضافة إلى اقتحام أحد المطارات في داغستان  بحثاً عن يهود قادمين من إسرائيل.

بالمقابل، إنّ مواجهة واشنطن مسرحين مشتعلين في الوقت نفسه يعني أنّ فرصة الصين لضمّ تايوان بالقوّة تصبح جديّة بمرور الوقت. علاوة على ذلك، وبعيداً من تايوان، تجد الصين في دعم الفلسطينيّين نافذة مهمّة للتواصل مع  الجنوب العالمي ، وهو ما يبدو سياسة صينيّة بعيدة المدى. المزيد من الدمار والقتل في غزّة يعني المزيد من التحسّن في صورة الصين بين شعوب تلك المنطقة وحكامها. ويأتي انحياز بكين لمصلحة فلسطين بالرغم من أنّ علاقاتها الاقتصاديّة مع إسرائيل أكبر بما يفوق أيّ مقارنة. مع ذلك، قد لا تعوّض القوّة الناعمة التي تبنيها الصين في دول الجنوب العالميّ القوّة الصلبة التي تملكها الولايات المتحدة في المنطقة ولا خبرتها الدبلوماسيّة الطويلة في مفاوضات السلام الإقليميّة.

وقد يكون لدى إيران أيضاً مصلحة في توسيع الحرب لإنهاك إسرائيل ومعها الولايات المتحدة. لكنّ هذه المصلحة تبدّدها على الأرجح حسابات باردة. تدرك إيران أنّ توسيع الحرب في الشرق الأوسط يعني احتمالاً أكبر لخسارة بايدن الانتخابات الرئاسيّة في 2024. ستنتج هذه الخسارة في أغلب الأحوال فوزاً لعدوّها اللدود دونالد ترامب، وبالتالي عودة لحملة الضغط الأقصى التي أنهكت اقتصادها. بالتالي، إنّ المصلحة الإيرانيّة في بقاء بايدن رئيساً تحتلّ أولويّة على ما عداها من المصالح الأخرى.

ربّما أفضل ما تتيحه الحرب على غزّة لكلّ من الصين وروسيا ومعهما إيران هو ترقّب ما إذا كانت ساحتان مشتعلتان ارهاق  الولايات المتحدة. وقد تراهنان أيضاً على أنّ فشل إدارة بايدن في الانسحاب من أفغانستان يمكن أن يتكرّر بطريقة أو بأخرى في غزّة. لكن باستثناء هجوم مباغت على تايوان قد لا يكون مضمون نتائج بعد التجربة الروسيّة في أوكرانيا، لا يبدو أنّ الصين تملك الكثير من الأوراق للاستفادة من الحرب على غزّة، أكان لتأسيس نفسها كقوّة عالميّة وسيطة في الملفّ أو لإضعاف الولايات المتحدة عالمياً. والأمر نفسه قد ينطبق على روسيا. وكان لافتاً للانتباه كيف احتفلت الصين بالعام العاشر لولادة “مبادرة الحزام والطريق” الشهر الماضي من دون أن يذكر الرئيس شي جينبينغ الحرب على غزّة خلال الفاها  في بكين للاحتفال بالمناسبة.

نقطة الضّعف الأساسيّة

إنّ عدم تمكّن خصوم الولايات المتحدة من استغلال الحرب على غزّة لتحقيق مكاسب دوليّة لا يعني أنْ ليس لدى الأميركيّين ما يكفي من المشكلات الدوليّة. على أجندة بايدن الكثير من القضايا الساخنة مثل التوتّرات أو الحروب المنخفضة الحدّة (البلقان والسودان وناغورني كاراباخ…) أو تدخّل كوريا الشماليّة في الحرب على أوكرانيا أو مشكلة التغيّر المناخيّ وغيرها الكثير.

لكن بشكل مفارق، قد تكون مكانة أميركا الدوليّة في المدى القصير مرتبطة بالديناميّات الداخليّة للولايات المتحدة أكثر من ارتباطها بالديناميّات الخارجيّة. ستعتمد سياسة واشنطن تجاه حرب إسرائيل على حجم الضغط الشعبيّ الأميركيّ الذي يمكن أن تتحمّله الإدارة في سنة انتخابيّة. وعادة ما تكون عتبة التحمّل في ظرف كهذا قليلة المرونة.