قرّرت إيديث بولينغ غالت ويلسون أن تخفي حالة زوجها الصحية عن أميركا. لم يعد يدخل على الرجل المصاب بسكتة دماغية ويعاني شللاً في الجهة اليسرى من جسمه إلا هي وطبيبه الخاص.

نحن الآن في العام 1919 في واشنطن العاصمة، الرئيس وودرو ويلسون يسقط عليلاً في منتصف فترته الثانية من الرئاسة تقريباً، ومن ذاك اليوم وحتى خروجهما من البيت الأبيض ستدير السيدة الأولى شؤون الحكم، من خلف الستار، لتوصف لاحقاً بأنها “أول رئيسة للولايات المتحدة”.

بعد أكثر من قرن على هذه الرئاسة السرية التي أثبتت فيها سيدة أنها قادرة على إدارة الأزمات بحكمة، لم تنتخب الولايات المتحدة امرأة للمنصب المرموق. أكثر من ذلك، فإن أميركا كان عليها أن تنتظر طويلاً لتنتزع هيلاري كلينتون أول ترشيح لحزب كبير لامرأة للرئاسة. ومع خسارتها أمام دونالد ترامب، بالرغم من تفوقها عليه في الصوت الجماهيري، عادت أميركا إلى الانتظار ثانية، بينما تعوض أفلام الخيال العلمي عن هذا النقص برئيسات متخيلات، بعضهن من العرق الأسود.

الآن، وبينما تمضي كامالا هاريس بثقة لنيل ترشيح حزبها، يطرح السؤال مجدداً: هل أميركا مستعدة لامرأة رئيسة؟ ثم، هل هي مستعدة لرئيسة أفريقية/هندية أميركية؟

ليست أول مرة يطرح سؤال التشكيك باستعداد أميركا لتغيير جذري وكبير. قد تتخلص أميركا من العبودية، لكن هل هي مستعدة الآن؟ قد تسمح للنساء والملونين بالاقتراع يوماً… قد تلغي نظام الفصل العنصري… قد تعطي الحقوق المدنية للمطالبين بها… وطبعاً الاستفسار الذي تداوله سراً منافسو المرشح الشاب في حزبه نفسه: ستنتخب أميركا يوماً رئيساً أسود، لكن هل هي مستعدة الآن؟ ألن يكون فوز باراك أوباما بالانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي بطاقة عبور لجون ماكين إلى البيت العتيد؟

من الحرب الأهلية التي أجابت عن السؤال الأول، إلى الشرخ المجتمعي والسياسي العميق الذي أحدثه زلزال الأوبامية، تبدو أميركا دائماً غير مستعدة، لكنها تقبل بالتغيير في نهاية المطاف، بالحديد والنار حيناً، وبصندوق الاقتراع حيناً آخر. هذه الباخرة العملاقة بركابها الذين يبلغ عددهم نحو 335 مليوناً، تمضي بسرعة هائلة، محكومة بتعقيدات سياسية واجتماعية واقتصادية وعرقية وانقسامات لا حصر لها، تجعلها شديدة البطء في تغيير اتجاهها وعلى حذر دائم من جبال جليد عائمة. لذلك، وعلى الرغم من ادعائها أنها أكثر الديموقراطيات حداثة وتقدمية وسرعة و تطوراً، إلا أنها غالباً ما تصل متأخرة عن الديموقراطيات الأخرى، من المساواة في الحقوق إلى النساء في السلطة.

السؤال عن استعداد أميركا لأول رئيسة يمكن إحالته إلى سؤال استنكاري معاكس: لماذا لم تنتخب أميركا بعد امرأة للرئاسة؟

في الأرقام، فإن تعداد الإناث على مستوى الولايات المتحدة يتفوق على تعداد الذكور منذ العام 1980 على الأقل، وحتى العام 2022. في الأرقام أيضاً، عدد المسجلين للانتخابات الرئاسية وغيرها من 1980 وحتى 2020 من الإناث يفوق عدد الذكور، كذلك الغالبية هي للمقترعات على حساب المقترعين. المرأة في أميركا إذن ليست نصف المجتمع على ما يقترح القول المأثور، بل أكثر. وفي سياق تاريخ طويل من النضال النسوي، استطاعت المرأة تحصيل مكاسب في الميادين كافة، بخاصة في عالم السياسة الذي لا يُظلم إذ يوصف بالذكوري. الكونغرس الذي بدأ نادياً خاصاً بالرجال يُمنع على النساء دخوله، تستحوذ النساء اليوم على 150 من مقاعده البالغ عددها 538، إضافة إلى أربع مندوبات.

النساء موجودات في كل المناصب، حاكمات لولايات، قاضيات في المحكمة العليا، مدعيات عامات، ووزيرات في إدارة جو بايدن، وصولاً إلى يساره حيث تقف نائبة الرئيس والتي نظرياً منذ انتخابها ستقسم اليمين وتصير رئيسة لأميركا، وهو احتمال لا يزال مفتوحاً حتى اليوم الأخير من ولاية جو بايدن.

أميركا ليست غريبة عن هذا الجندر إذاً، ولا هو غريب عنها. تقبُّل الولايات المتحدة لرئيسة من عدمه، يقع في مكان آخر. في الصراع بين توجهين معاكسين سياسيين ثقافيين بين محافظين وليبراليين. وبينما كانت المعركة المرتقبة تدور بين رجلين أبيضين مسنين على عناوين منها حق المرأة التام بجسدها، مع ترجيح كفة الفوز لدونالد ترامب لأسباب أهمها خصمه نفسه، قلبت هاريس الطاولة بدخولها المفاجئ.

تلاشت فجأة حالة التيه التي عاشها الديموقراطيون منذ المناظرة الشهيرة، ولا شك أنهم شعروا بنشوة لا مثيل لها بينما التبرعات تنهال على من لم تنل ترشيحهم الرسمي بعد، والتي شارك في رقمها القياسي متبرعون كبار وآخرون مجهولون اقتطعوا من راتبهم ليسجلوا موقفهم الداعم لهاريس. المرشحة بحيويتها المفرطة، ضمنت من اللحظة الأولى صوت النساء السود، وهو صوت يثق الحزب الديموقراطي بأنه لا يتخلف قط عن موعد التصويت، يسوقه تاريخ من الحس بالمسؤولية المضاعفة للأفارقة الأميركيين خاصة في لحظات الإحساس بالخطر.

كامالا هاريس تدخل المعترك الانتخابي محمولة، بشكل أو بآخر، على كتفي تاريخ من النضال النسوي ستستخدمه حتى آخر رمق في تسويق صورتها وفي محاولة تهشيم صورة خصمها وما يمثله. ومعركتها تبدو اليوم ضد الخصم الحالي، دونالد ترامب، وضد السؤال العتيق الذي أجابت عنه إيديث ويلسون في العام 1919: هل أميركا جاهزة للمدام الرئيسة؟