كتابة إبراهيم الهضيبي، مُحرر مُنشِئ.
لا يسمعُ الجنودُ عندَ سير الجيش إلى أرض المعركة إلا طبولَ الحرب. أظنُّ أنَّ وظيفتها لم تكن التنبيه والإعلان قطّ، إذ لا يحتاجهما الجندي. ولكنها تضمن ألا يسمعَ الجندي تساؤل جاره الجندي وتشككه، وأن تحتكر القيادةُ الصوتَ المسموع. وأصوات طبول الحرب هذا الأسبوع عالية، تكاد تعلو فوق صوتِ الأسئلة التي تسألها مقالات مجلةِ الفِراتس التي جالت بنا في ساحات الحرب، تبحث في آثارها المحتملة وأسباب الحروب وتاريخها.
في مقالة “نذر حرب شاملة مع إسرائيل” يستعرض كريم طرابلسي الآثار المتوقعة للحرب على لبنان، التي تُدَقُّ طبولها في إسرائيل. لن تتحمل لبنان هذه الحرب. ولا يمكن مقارنتها بما كان في حرب 2006، فلا حزب الله اليوم، بعد تورطه في القتال مع بشار الأسد، هو حزب الله حينئذ، ولا الاقتصاد اللبناني اليوم هو ذاته يومها. ولا يمكن الرهان على دعم خليجي كما كان في السابق. يرصد طرابلسي هذه التحولات في ضوء تأجج الخلاف في تصورين متصارعين لمستقبل لبنان. استمرَّ الصراع بينهما منذ اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية. أول الخيارين، والذي تبناه رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، هو نموذج هونغ كونغ، القائم على سراب السلام، وثانيهما خيار هانوي، القائم على المقاومة.
لا تواجه الأردن، جارة فلسطين الأخرى، خطر الحرب الذي تواجهه لبنان. لكنها تواجه، مع ذلك، تحديات تتعلق بقدرة الدولة على الموازنة بين مكونات المجتمع. يأخذنا علي حجازي، في مقال “ثلاثية الهوية الأردنية”، في رحلة تاريخية تتتبع تشكل الجماعة الوطنية الأردنية والتوترات التي تحكم العلاقات بين أطرافها الثلاثة: العشائر، والفلسطينيين، سواء المجنسين أو اللاجئين، والنظام الهاشمي. يرصد حجازي محطات التكامل والتنافر بين هذه الأضلاع، في رحلة تبدأ بمقدمات تأسيس الأردن سنة 1921، ولا تنتهي بالتوترات في ملاعب كرة القدم بين فريقَيْ الفيصلي والوحدات، ويتساءل عن قدرة الدولة في تطوير صياغة تجمع من المكونات الثلاثة.
وليست العشائر في الأردن استثناء، فالدولة الحديثة حيث حلّت وجدت تاريخاً ومجتمعاً اضطرت للتعامل معه. في مقال “الصراع بين القبيلة والدولة في عُمان” يبحث سعود الزدجالي في تلك العلاقة المعقدة بين القبيلة والدولة. فالصراعُ يبدو من جهة جذرياً متعلقاً بالسيادة، فالطرفان يتنازعان السلطة على الزمن. إذا اختلفا قرر كل طرف أن يكون عيد الفطر في يوم غير الآخر. ومن جهة أخرى لا يبدو أيّ الطرفين مستعداً للاستغناء عن وجود الآخر. ويبحث الزدجالي في أثر هذه العلاقة الملتبسة على مفهوم المواطنة، التي تجرد بسببها عن الحقوق وصار يعني الانتماء.
ويرحل بنا سعد عميرة في الزمن بمقاله “الخاين يلبس طربوش” الذي يروي فيه قصة فلسطين كما عاشها عبد السلام إبراهيم سليمان، ابن البيرة الذي جاوز عمره التسعين، ولم تفلح هذه السنون، ولا كلُّ ما تغير في فلسطين منذ ذلك الوقت، في حذف ما في ذاكرته من تاريخ الوطن. يحكي سليمان كيف عاش الثورة العربية الكبرى سنة 1936، وما حصل في أعقابها من إعادة تشكيل المجتمع. ويحكي تاريخ النكبة كما عاشها، وما أعقبها من سفره إلى الولايات المتحدة، قبل أن يعود إلى فلسطين بعد تقاعده، ليموت فيها العام الماضي.
وبعض الحروب اجتماعيّة لا تُقرع طبولها عالياً ولا نسمع صوت نيرانها لكننا نرى ضحاياها. تشرحُ آمنة جلبي في محاجّة بعنوان “الإعاقة ومأزق اللغة” الأثرَ السلبي لغياب مصطلحٍ مناسب للحديث عن الأشخاص من ذوي الإعاقة. وتُحلل تفكيرنا بهذه الفئة ومعنى الصفات والأسماء التي نُطلقها عليهم، وأثر هذه الكلمات في تعاملنا معهم.
وبرحلة أخرى في الزمن، يأخذنا احميدة النيفر في مقاله “الانفتاح على الآخر أوسع أبواب البيروني في رحلته إلى الهند” في جولة مع البيروني، يتأمل فيها رحلته في الهند. لم يكتف البيروني في هذه الرحلة بالتعرف على الآخر، والاشتباك النقدي معه على نحو يبدو مغايرا لذلك النمط الاستشراقي المرتبط بالمشروع الاستعماري. ثمانون باباً أبرزُها الانفتاحُ على المغايِر المختلِف استكشفَ بها البيرونيُّ بلادَ الهندِ، ومنها عبرةٌ لصِدامات زماننا اليوم.
من لندن إلى “إمبراطورية ابن السعود”
كتابة فريق التحرير الإنشائي.
انتابني فضولٌ لأقرأ ما قاله صحافيّون عرب وكُتّاب في النصف الأول من القرن الماضي عن إسطنبول، مدينتي المؤقتة منذ ثماني سنوات. رحتُ أبحث عنها في الأرشيف، ففاجأتني نتائج البحث إذ وضعت على مكتبي مقالةً عنوانها “إمبراطورية ابن السعود”. تساءلت عن علاقتها بإسطنبول، وفتحت المقالة لأقرأها.
سنةَ 1941 يبدأ الكاتب مقالته من العاصمة البريطانية لندن، وتحديداً في “المفوضية العربية”، حيث قابل حافظ وهبة، الدبلوماسي السعودي المصري، ورجاه أن يسهّل له الحصول على تأشيرة لزيارة مملكة ابن سعود، ويقصد الملك عبد العزيز. وبالفعل جاءت الموافقة، وفي سفارة السعودية بالقاهرة “أشَّر” الدبلوماسي السعودي على جوازه، ويقصدُ بالتأشير منحه التأشيرة، أي “الفيزا”، لدخول البلاد.
ثمّ يحكي كاتبنا عن رحلته إلى السعودية ويستفيض. فيصف السفينة الإيطالية المهترئة التي ركبها ومن فيها من خدم صوماليين بلباس أبيض برّاق. ويحكي عن رفيق سفرٍ من أبناء المدينة المنوّرة، ثري بلباسٍ إفرنجيّ يتحدث الإنجليزية والفرنسية، وقادم من أين؟ من إسطنبول. وهذا الرابط العجيب الذي أوصلني إلى هذه المقالة، أما قصة الشاب فلكم أن تطلعوا عليها في مقالة كاتبنا. وأتساءل إن كان لهذا الرجل مذكرات توثّق قصة رجل تنقّل في سنوات قليلة بين هوياتٍ حجازية وعثمانية وسعودية وبين عوالم اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية.
ثمّ يصل كاتبنا إلى مدينة جدّة، ويرى فيها صورةً “ممسوخة” من نيويورك، مع الفرق الهائل بين معمار المدينتين وأبنيتهما حينها. وهنا لم أفهم، وربما لم يعرف هو ما يريد، فمرةً يمدحُ جدة ومرةً يذمّها، وكأنه وجد فيها روحاً أعجبته ولكنه استصعب إعجابه بها من غير نقد، ولا أخفيكم أن وصفه المدينة وأسواقها وشوارعها وبيوتها جميل، وربما يستمتع بقراءته قرّاؤنا الجدّاويون ومحبّو جدة.
ومن تقلّب مشاعره يقفزُ بنا إلى الحج. يعنون القسم الثاني من مقالته “الله أكبر”، ويجول بنا في خواطر وتساؤلات عن الحج، فما الذي يجمع كلّ هؤلاء، ولماذا يتكبّد الناس عناء السفر وتعب شعائر الحج ويتغاضون عن خطر الموت. يُوصّف ملامح الشعوب المختلفة القادمة إلى الحجاز، لباسهم وألوانهم وتقاسيم وجوههم، ويسأل كيف اجتمعت الأعراق و”العنصريات” بلا خلاف أو قتال في أرضٍ ضيقة مثل مكة. ويبدو أنها المرة الأولى التي يشهد فيها الحج. وهي صورةٌ اعتدنا أن نراها في الشاشات بلا تفكير وتساؤل، إلا أنّ كاتبنا، وهو عراقي عربي مسيحي، أثارَت فيه الأفئدة الهاوية إلى مكة والحجاز شجناً وأسئلةً عن الأخوة والرابطة الدينية، فتفكّر في قدرة المسيحية على تأليف القلوب. ومن الطريف أن يصف كاتبنا نفسه بأنه من “أبناء الغرب”، وهمُّ الأخوة والوحدة الذي يحكي عنه همُّ وحدة أوروبا ومع ذلك يختمُ مقالته، على عادة مجلة الرسالة، بتوقيعٍ من “البصرة، العراق”.
هذه رحلتي اليوم في أرشيف مجلات النهضة. وقبل أن أترككم، أُعلمكم برفعنا مجموعة أعداد من مجلة الثقافة، ناشرها ومحررها أحمد أمين، ويمكنكم الاطلاع عليها في صفحة الأرشيف، وهنا افتتاحية عددها الأول، يسأل ويجيب فيها أمين: لماذا نُصدر المجلة؟
وإلى لقاء في جولة أرشيفية أُخرى!