كان المفكر جورج شتناير النمسوي الأصل الفرنسي الهوى والهوية رغم أنه أصدر القسم الأكبر من دراساته التي يربو عددها على الـ60 مؤلفاً أساسياً في اللغة الإنجليزية، واحداً من نقاد الأدب والباحثين في الشؤون الثقافية خلال السنوات الـ50 الأخيرة. وهو حين أصدر قبل سنوات قليلة من رحيله في عام 2020 عن عمر تجاوز الـ90، واحداً من كتبه الأخيرة بعنوان “شاعرية الفكر” بدا فيه ليس وكأنه يحاول أن يلخص فقط عقوداً طويلة من البحوث والأفكار، بل كأنه يحس باقتراب نهايته فجاء كتابه أشبه بوصية لختام حياة. غير أنها كانت وصية غارقة في التشاؤم إزاء الشرط الإنساني كما بدا له في مستهل الألفية الجديدة، لا سيما لدى مقارنته بالآمال التي كانت البشرية تعقدها على الفكر والعقل خلال العقود الأولى من القرن الـ20 “رغم أن أسوأ الحروب والمجازر التي عرفها العالم في ذلك القرن كانت أوروبية أي تنتمي إلى تلك القارة التي كانت هي مركز إشعاع العقل منذ عصر التنوير بل منذ عصر النهضة”. لعل المفارقة في الأمر تكمن في أن شتاينر نفسه كان قد انطلق في مساره الفكري بشكل خاص من مقارنة عميقة بين كاتبي روسيا الكبيرين دوستوفسكي وتولستوي في كتاب تأسيسي حمل اسميهما معاً عنواناً له. معبراً فيه من خلالهما عن إيمانه وإيمان الزمن الذي يعيش فيه بالفكر العقلاني الذي طبع إبداعهما وأورثاه معاً إلى القرن الـ20.
نيتشه وهيراقليطس ودانتي
مهما يكن فإن البطولة في كتابه الأخير “شاعرية الفكر” أتت معقودة للثلاثي الذي دائماً ما سيطر على فكره: نيتشه، هيراقليطس ودانتي، وذلك ضمن إطار “درس الأدب المقارن” الذي كان موضوع عمله الأثير آخر سنوات حياته في جامعة كامبريدج وتحديداً في كلية تشرشل التي كان هو من أسسها في تلك الجامعة في وقت كان ينشر مقالاته النقدية في مجلة “نيويوركر” الأميركية. ولعل اهتمام شتاينر بذلك “الثلاثي” يرتبط بنظرته الحازمة في نقده لما أسفر عنه القرن الـ20 في نهاية الأمر وخصوصاً بالنسبة إلى أوروبا التي كان حاضرها مصدر خيبته خلال المرحلة الأخيرة من حياته ولو من دون أن يعترف صراحة بذلك. كان يكتفي بالأرقام يذكرها مع قليل من التعليق وهو على ثقة من قدرة الأرقام على إيصال رسالته. ومن هنا نراه يذكر في حديث صحافي أجري معه لمناسبة صدور الترجمة الفرنسية لـ”شاعرية الفكر” كيف أن “أوروبا في امتدادها الواقع بين موسكو ومدريد وبين كوبنهاغن وباليرمو، قد فقدت من أغسطس (آب) 1914 إلى مايو (أيار) 1945 نحو 80 مليون نسمة ضحية للحروب والمجازر والترحيل والاقتلاع ومعسكرات الموت والمجاعات وشتى ضروب القصف لكن المعجزة كانت في بقائها حتى وإن كان صمودها قد تبدى جزئياً لا أكثر. واليوم ها هي أوروبا تجتاز أزمة درامية في تاريخها بالنظر إلى أنها تضحي بجيل كامل من أبنائها هو جيل الشباب الذي لم يعد يؤمن بأي مستقبل”.
المنفى حقيقة وحيدة
ويستطرد شتاينر حديثه هنا قائلاً: “عندما كنت في ميعة شبابي كانت هناك آمال كبيرة كثيرة. كانت الشيوعية تعتبر أملاً وكانت الفاشية بدورها تعتبر بالنسبة إلى معتنقيها أملاً. بل حتى الصهيونية كانت تشكل أملاً لكثر من اليهود… فأين هي هذه الآمال وكثير مثلها اليوم. إن فقد الشباب الأمل ما الذي يبقى؟”. ويختم شتاينر قائلاً: “نعرف ما آلت إليه الفاشية في تحالفها مع النازية. ونعرف إلى أين وصلت الشيوعية مع الغولاغ وستالين، وكلتاهما غرقتا في رعب لا برء منه. أما إسرائيل التي انبنت على الحلم الصهيوني فها هي اليوم مجبرة على الصراع من أجل البقاء والبقاء لا أكثر إذ تحولت النزعة القومية فيها إلى واقع فجائعي يتناقض تماماً مع ما كان يمكننا اعتباره “عبقرية يهودية” لا يتبقى منها شيء، وهي ذات النزعة الأممية أصلاً، حين تنغلق على تلك النزعة القومية. وهذا ما يحفزني على أن أرغب في أن أكون دائماً شريداً أطوي الآفاق” (وواضح هنا أن شتاينر يقول هذا من منطلقه كيهودي لا يعتبر إسرائيل وطناً له بأي حال من الأحوال مفضلاً عليها “المنفى الذي هو الحقيقة الوحيدة” التي يؤمن بها).
بين الأدب والفلسفة
وهذا الكلام الذي يطرحه شتاينر هنا كنوع من وصية فكرية وأخلاقية، ينقله إلى الحديث عما إذا كان زمننا الراهن لا يزال يعيش ذلك التواطؤ القديم بين الأدب والفلسفة، وهو واحد من المواضيع الأساسية في “شاعرية الفكر”، فيقول إن هذين النوعين من الإبداع الإنساني يبدوان له مهددين، إذ لا وجود لأحدهما من دون الآخر فـ”الأدب بات يختار اليوم حيز العلاقات الشخصية الصغيرة. ولم يعد قادراً على الاهتمام بالمواضيع الميتافيزيقية الكبرى. لم يعد لدينا اليوم بلزاك أو إميل زولا. بالنسبة إلى هذين العبقريين لم يكن ثمة موضوع يفلت منهما من بين مواضيع المهزلة الإنسانية. بروست بدوره عرف كيف يخلق عالماً لا ينتهي، من دون أن ننسى كم أن “يوليسيس” جيمس جويس قريب من هوميروس. وجويس كان على أي حال النقطة المفصلية بين عالمين: العالم الكلاسيكي وعالم الفوضى. في الماضي أيضاً كان في مقدور الفلسفة أن تزعم كونها كونية. يومها كان العالم كله منفتحاً على فكر فيلسوف من طينة سبينوزا. أما اليوم فإن مساحة فسيحة من الكون باتت مغلقة في وجهنا. وها هو عالمنا يضيق أكثر وأكثر. وها هو خطر الترييف يحيق بالثقافة عموماً. ولذا بما بات علينا أن نعيد التفكير بمفاهيمنا الثقافية، أو بتصورنا للثقافة…”.
الكلاسيكية وهشاشتها
وهنا إذ يؤخذ على شتاينر كونه يدافع عن الثقافة الكلاسيكية في الوقت نفسه الذي يلح فيه على هشاشتها، يوضح أفكاره في هذا المجال قائلاً: “الحقيقة أنني أفعل ذلك لأني أرى أن الثقافة تتهاوى أمام البربرية. ولا ننسين هنا أن الحربين العالميتين إنما كانتا حربين أهليتين أوروبيتين. فألمانيا، وطن هيغل وفيخته وشيلينغ، ألمانيا التي كانت الرحم الذي ولد منه الفكر الفلسفي الحديث، عرفت في القرن الـ20 أردأ أنواع الهمجيات. والإنسانيات، التي عرفت أوجها في فايمار الألمانية، لن تحمينا على الإطلاق من تلك الهمجيات، بل تحالفت أحياناً مع كل ما لم يكن إنسانياً. معسكرات الموت في بوخنوالد تقع على بعد بضعة كيلومترات من فايمار. ترى كيف يمكن لبعض الناس أن يعزفوا باخ وشوبرت في أمسياتهم ثم ينصرفون عند الصباح إلى ممارسة التعذيب والقتل في المعسكرات؟”.
الثقافة لتحمل الوجود
وهنا إذ يسأل شتاينر على ضوء تلك النظرة الاتهامية التي يلقيها على واقع لا يمكن نكرانه عن فائدة الثقافة إذاً، إن كانت عاجزة عن أن تعيد لنا إنسانيتنا؟ يجيب: “إنها تمكننا من تحمل عبء الوجود. ليس من الأمور المفرحة أن نكون بشراً فانين. فنحن البشر نجد أنفسنا يومياً في مواجهة شتى أنواع السرطان والقلق والضغط والخوف… كل يوم من أيامنا يمكنه أن يحمل لنا وداعاً جديداً نجدنا عاجزين عن مجابهته. ويقيناً أن ليس ثمة ما هو أكثر إيلاماً من ذلك الوداع…”. وهنا إذ يسأل جورج شتاينر (1929 – 2020) عما إذا كان رغم ما يقوله عن أوروبا يصر حتى النهاية على اعتبار نفسه أوروبياً، يجيب: “أوروبا كانت وتبقى أرض المجازر والعجز عن التفاهم، لكنها في الوقت نفسه وطن الثقافات التي أحبها. أنا دين لأوروبا بكل ما لدي. أريد أن أبقى فيها قريباً من كل ذوي الذين دفنوا في أرضها متكلماً اللغات الأوروبية الأربع التي تعلمتها فيها وأتقنتها. لغاتها هذه هي راحتي الكبرى ولذتي اللانهائية. أنا لا أؤمن بوجود لغة واحدة في حياة المرء وخصوصاً بما يسمى اللغة الأم. هذه اللغة ليست سوى جزء من نزعة قومجية مغلقة ومنغلقة، لا تخلو من نزعة رومانطيقية بائسة وبائدة. كل لغة يتقنها المرء هي نافذة نور وهواء منعش تطل على العالم… ومن يمكنه يا ترى أن يرفض النور والهواء المنعش؟”.