هي موجة أخرى تأتينا لتذكيرنا ببيروت السابقة. من كل من الموجات التي سبقت كنا نتزوّد بمعرفة قليلة: باب من بوابات بيروت مثلا، إسم لشارع، أو لسوق، أو إلى ماذا يرجع اسم «درج خان البيض». وماذا كان هنا، في هذا المكان، قبل أن يحلّ محلّه الاسم الذي شاع من بعده. ذاك الرجل الذي يخبرنا عن ذلك ينبغي أن يكون الأوّل بيننا، أو الأسبق عهدا منا بالعيش في بيروت. ذاك أنه يروي، على الواتساب، كأنه عاش ما يرويه، باستثناء طبعا البيت الذي أقامه الرجل القديم في سنة 1236 الذي قام في مكانه سوق الصاغة. هو من آل اللاذقاني، ما يعني أن العائلة حافظت على كنيتها منذ ذلك التاريخ، وهذا ما لم نكن نظنّه، أو كنا حائرين بشأنه، في ما يخصّ العائلات اللبنانية جميعها.
هي موجة أخرى تأتينا لنتذكّر بيروت، أو لنحفظها. ذاك أن النسيان كان قد ابتلع الكثير مما كنا نعرفه. لكن ما يقلقنا أكثر هو ما نحن مقبلون على نسيانه. أقصد أن لا نعود نتذكّر سوق البازركان، أين كان مكانه، أو سوق الفرنج، أو أن ذلك الدرج النازل من جانب كنيسة مار جرجس كان اسمه درج خان البيض. في سنوات سابقة على ما سُمّي بإعادة إعمار بيروت. بذلنا، أنا وصديق لي، محاولات مجهدة لنعرف كيف نوائم بين «خان أنطون بك» واسمه. كنا نعرف الاسم، ونعرف المبنى، لكن باستقلال أحدهما عن الآخر، أي أننا، ولمزيد من الإيضاح، لم نكن نعلم أن هذا المبنى الذي نزوره هو ذاته خان أنطون بك الذي حفظنا اسمه لكثرة ما ردّدته إعلانات التلفزيون على أسماعنا.
ذاك الرجل الذي تطوّع الآن لتعليمنا أشياء عن تاريخ بيروت، ينبغي أن يكون أكبر الجميع سنّا، وإلا من أين له بكل هذه التفاصيل، لكن لا صوته ولا اسمه (طارق) يشيران إلى ذلك، إذ لا تهدّج في الصوت أو في النبرة، ولا تعثّر في نطق الكلمات. ثم إنه يسمّي الشوارع التي تحمل أسماء فرنسية بفرنسية صحيحة، وهذا قلّما كان متوافرا عند أشخاص بلغوا الآن عمر المئة، بل ربما كان طارق هذا أصغر منا عمرا لكنه، بخلاف أكثر اللبنانيين الآن، غير ضارب صفحا عما كانته مدينته من قبل أن يولد فيها.
كنا على وشك نسيان أولئك الذين يطوفون في سوق النورية، حاملين سلالهم الأوسع من صندوق سيارة، أولئك الذين كان يُنادى عليهم بالقول: تعا يا سلّ». كانوا على وشك الهروب من ذاكرتنا لو لم يذكّرنا طارق بأنهم كانوا هناك، وهذه صورهم، وبالألوان، ما يدّل على أننا كنا أكثر من يافعين في زمنهم ذاك. شكرا يا طارق. ضروري أن يكون شخص مثلك موجودا، ليس فقط لإيقاف تداعي الذاكرة عند حدّ، بل أيضا لطمأنتنا بأنه لن يأتي ذلك الوقت الرهيب الذي نحتاج فيه إلى أن نعرف عن شيء ما مضى ولا نجد أحدا ينجدنا أو يفيدنا.
٭ ٭ ٭
فيما هو، ذاك الذي اسمه طارق، يدلّنا على المداخل الثلاثة الموصلة إلى سوق النورية، يحرص على أن يستعير الطريقة القديمة في إرشاد الناس الذين يلتقون على الطرق: من سوق أبو النصر بتروح عالشمال بتلاقي زاروب صغير بتفوت فيه.. لكننا، مع ذلك، لن نتمكّن من الوصول، بل لن نجروء على البدء بالمحاولة، لأن لا شيء ما يزال قائما حيث كان، لا الأماكن ولا الأسماء. لبيروت الآن، بيروت القديمة تلك، خريطة جديدة لجغرافيا جديدة. لا شيء من ذاك الماضي سيحضر مذكّرا بما كان عليه. هي الآن عالم من حجارة ورخام خفّفت من جِدّتها السنوات التي أعقبت إعادة بنائها، وتلك الشعارات التي خطّها متظاهرو 2019 على جدرانها.
أشعر بأن طارق يقصنا نحن، الأكبر منه سنّا ربما، حين يشرح لمتابعي حلقاته على تلفوناتهم المحمولة تفاصيل في «وصف بيروت». يقصدنا نحن الذين نعرف عن ماذا يتكلّم وماذا يصف. ربما يمكن أن نعلّق على ما يقدّمه بالقول إن أحدا لن يفهمه مثلما نفهمه نحن، لكن من ناحية ثانية نقول إنه يكمدنا إذ يجعلنا نفكّر أننا كبرنا إلى حدّ أن ذلك الذي عشناه بات قديما، إلى حدّ أنه بات تاريخا، أو إنه «دخل التاريخ» كما يقال هنا، أي أننا، نحن أيضا، بتنا تاريخا، وإن كان بعض منا ما زال يتصارع مع حاضره القاسي اللئيم.
كاتب لبناني