للمرّة الأولى، يعلن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قبل أيامٍ، مسؤوليته عن عملية “عبوة ناسفة” ضدّ القوات السورية في النظام السياسي الجديد، بعد سقوط نظام بشّار الأسد (وتولي زعيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، أبو محمّد الجولاني سابقاً، رئاسة البلاد)، في استنساخ لنموذج شبيه من الصراع بين حركة طالبان وتنظيم داعش (ولاية خراسان) هناك، الذي تحوّل إلى العدو الأول للنظام الجديد في أفغانستان.
حجم الخصومة والعداء بين تنظيمَي هيئة تحرير الشام وداعش كبيرٌ لا يقف عند تخوم الجانب الفكري أو الأيديولوجي، بل يصل إلى التكفير والرمي بالعمالة والتخوين. وقد دخل كلاهما صراعاً دموياً كبيراً، في العام 2013 عندما رفضت جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام لاحقاً) الاعتراف بالتبعية للخلافة التي أعلنها حينذاك أبو بكر البغدادي، ما أدّى إلى خلاف شديد لاحقاً بينهما، اضطر معه أبو محمّد الجولاني إلى الاعتراف بالعلاقة مع “القاعدة”، بالرغم من أنّه لم يكن يعلن ذلك سابقاً، قبل أن يعلن الجولاني نفسه الانشقاق والانفصال عن تنظيم القاعدة في 2016، وفي وقتٍ لاحق يعلن تنظيم حراس الدين القريب من “القاعدة” انشقاقه عن تنظيم هيئة تحرير الشام في إدلب، احتجاجاً على التحولات والتغيرات الكبيرة التي مرّ بها التنظيم، خاصّة انفصاله عن القاعدة.
يمكن أن يضاف إلى “داعش” و”القاعدة” تحدّيان آخران؛ الأول من حلفاء الهيئة من الفصائل الإسلامية الأخرى، التي بالرغم من أنّها قريبة من تركيا، ولن تأخذ موقفاً يعارض تركيا في سورية، إلاّ أنّه لا توجد قراءة دقيقة فيما إذا كان أفراد هذه الفصائل مُهيّئين للتحولات السياسية والفكرية التي تحدُث في سورية. ويتمثّل التحدّي الثاني بمصير آلاف المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا إلى جوار الهيئة، ووقفوا وقوفاً صلباً معها في مراحل ومنعرجات صعبة وقاسية، خاصّة أنّ هنالك موقفاً غربياً، وخاصّة أميركياً، حاسماً بربط الانفتاح والتطبيع ومستقبل سورية بإخراج هؤلاء تماماً من النظام السوري، وهو الشرط الذي ما يزال الشرع يحاول ممانعته، بالرغم من مرونته الشديدة في ملفاتٍ كثيرة، وينقل عنه دبلوماسيون عرب قوله إنه لا يستطيع التضحية بهم بعد كل ما قدّموه للثورة السورية، ولكن إلى أين ستسير الأمور ليس واضحاً بعد.
وبالرغم من أنّ الشرع قد أدار ظهره كليّاً لتلك المرحلة الجهادية، ويحاول صوغ مسار جديد، إلاّ أنّه أمام “بيئة خصبة” معادية لهذه التحوّلات في أوساط جهادية، وسيعمل كثيرون على استثمار تلك التحوّلات لإظهاره بصورة الذي تخلّى عن أفكاره وعن المجموعات التي ساهمت في وصوله إلى السلطة. ويكفي قراءة بعض المقالات والخطابات من أوساط “داعش” و”القاعدة”، لنرى حجم الحرب الكبيرة عليه، إذ خصّصت مجلة النبأ، الناطقة باسم تنظيم داعش، مقالات وتحليلات عديدة (في الأعداد الصادرة أخيراً) للهجوم على الشرع واتهامه بالردّة، وقد جاءت افتتاحية العدد قبل الأخير بعنوان “على عتبة ترامب”، وشنّت هجوماً أيديولوجياً عنيفاً على الشرع، بينما احتوى العدد الأخير على افتتاحية بعنوان “يا جنودَ الله هُبّوا”، وفيه تحريض على عملياتٍ في موسم الحج، في كل من مكّة والقدس ودمشق.
وإذا كانت الفتوى المنسوبة لأبي محمد المقدسي بتكفير الشرع غير مؤكدة بعد من مصادر موثوقة ولا حساباته الحركية على مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّها ليست بعيدة البتة عن الموقف الحقيقي للمقدسيّ، الذي يرى أنّ هيئة تحرير الشام أخذت مساراً خارج سياق السلفية الجهادية تماماً، وحتى المنظومة الإسلامية، لكن الفرق أنّ الفتوى الجديدة (إن صحّت) فهي أقرب إلى تكفير علني واضح وصريح.
في الخلاصة، هنالك صراع أيديولوجي وفكري ضخم يواجه هيئة تحرير الشام على أكثر من صعيد، وهو صراع ليس في طور التراجع والهدوء، بل التصعيد، كلما مرّ الوقت وبنى النظام الجديد المؤسّسات والعلاقات الجديدة. وربما تشهد المرحلة المقبلة استقطاب أعداد من التنظيمات والجماعات المسلّحة السابقة وتأليبها ضد النظام الجديد، خاصة أنّ الشرع بين فكّي الكماشة؛ أصدقاء الأمس- أعداءُ اليوم، أصدقاء اليوم – أعداء الأمس، الأميركيون والإسرائيليون من جهة، والجهاديون العالميون وبعض المحليين من جهةٍ أخرى، والشروط الدولية والإقليمية القاسية التي وضعت لإعادة قبول سورية ورفع العقوبات واستدخالها ضمن المنظومات الإقليمية والدولية، وذلك هو المفتاح الوحيد المتاح لتحسين الاقتصاد وحياة الناس والخروج من أخطار عديدة في هذا السياق.