Nathalie Lees

ثمة ثابت واحد مهيمن في سياسة الولايات المتحدة بالشرق الأوسط منذ عام 1973، هو أمن إسرائيل؛ فقد حددت الولايات المتحدة أمن إسرائيل باعتباره مصلحة وطنية أميركية تتمتع بأولوية لفترة تزيد على خمسين عاما، بل استخدم الأميركيون الاستراتيجيات نفسها بشكل أساسي لتحقيق هذه المصلحة الوطنية منذ حرب 1973. وفي حين تتغير الأسماء والأماكن، فإن النهج الأميركي لا يحول ولا يزول.

أولا، تتمثل إحدى الاستراتيجيات الأميركية الأساسية في ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي؛ ففي حرب عام 1973، حين تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة في الأيام الأولى للحرب، نقل هنري كيسنجر، وريتشارد نيكسون، الإمدادات العسكرية والطائرات المقاتلة الجديدة على وجه السرعة، وأخرجت إدارة نيكسون طائرات الفانتوم الأميركية من طراز “إف-4” من قواعد القوات الجوية الأميركية، ونقلتها إلى إسرائيل بعد أن رُسمت نجمة داود فوق العَلَم الأميركي، وبدأ الطيارون الإسرائيليون فورا في استخدام تلك الطائرات ضد سوريا ومصر. وكان واضحا أن كيسنجر ونيكسون كانا يصران على أن يكون التوازن العسكري في حرب أكتوبر/تشرين الأول لمصلحة إسرائيل.

واليوم، تهدف إدارة بايدن، من خلال إرسالها قنابل وصواريخ مضادة للصواريخ وإمدادات أخرى إلى إسرائيل على أثر هجوم “حماس”، إلى تمكين إسرائيل من قصف غزة وسوريا ولبنان والعراق على الوجه الذي تراه إسرائيل ضروريا، بينما تتمكن إسرائيل في الوقت عينه من حماية نفسها من الهجمات الصاروخية.

ومتابعة لهذه السياسة، تسارع الولايات المتحدة باستمرار لإدانة الهجمات الإرهابية ضد المدنيين الإسرائيليين، سواء كان تنظيم حماس أم الفدائيون الفلسطينيون أم “حزب الله” هو من شنّ تلك الهجمات. وعلى النقيض من ذلك، كانت واشنطن تتردد دائما في انتقاد الأعمال العسكرية الإسرائيلية، والتي أدت إلى مقتل آلاف المدنيين في غزة، والضفة الغربية، ولبنان على نحو مباشر. ومن شأن انتقادات كهذه أن تفتح نقاشا حول المساعدات العسكرية الأميركية المقدمة لإسرائيل، وإن استثنينا الديمقراطيين ذوي الميول اليسارية كالسيناتور بيرني ساندرز، فلا أحد في الطبقة السياسية في واشنطن يريد مناقشة هذه السياسة الأميركية التقليدية.

 

تتمثل الاستراتيجية الأميركية الثانية الثابتة في إخراج دول المنطقة من المعسكر الذي يواجه إسرائيل. فقد هدف هنري كيسنجر أواخر عام 1973 إلى إبرام اتفاق عسكري أولي بين مصر وإسرائيل يؤدي في نهاية المطاف إلى إجراء محادثات سلام برعاية أميركية. وقد رُبطت العملية التي بدأها كيسنجر، ومن ثمّ أنهاها السادات والرئيس كارتر في كامب ديفيد براعٍ عسكري واقتصادي أميركي، وضمنت أنه لا يمكن لأي تحالف يتشكل بين الدول العربية أن يشكل تهديدا عسكريا كبيرا لإسرائيل كما حدث في حرب أكتوبر/تشرين الأول. وبعد انقضاء خمسين عاما، واصلت إدارة ترمب ومن ثم إدارة بايدن الجهود الأميركية الرامية لإقناع دول المنطقة بقبول إسرائيل.

وكان فريق بايدن يبذل جهدا كبيرا بهدف التوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية بعد اتفاق أبراهام الذي عقده ترمب. وتهدف اتفاقات التطبيع هذه إلى تشكيل مجموعة إقليمية تتألف من إسرائيل والدول العربية الرئيسة بهدف الوقوف في وجه إيران، وتهدف في الوقت ذاته إلى الحدّ من العلاقات العسكرية التي تربط هذه المجموعة الشرق أوسطية بكل من الصين وروسيا.

 

والثابت الثالث والأخير في الاستراتيجية الأميركية، والذي يتمتع حاليا بأهمية خاصة، مفاده تجاهل واشنطن للقضية الفلسطينية؛ إذ إن كيسنجر لم يعتبر قط القضية الفلسطينية قضية مهمة؛ وكان يُفضل العمل مع الدول العربية، وليس مع مجموعات مثل منظمة التحرير الفلسطينية التي كان يعتبرها مجموعة من المنظمات الإرهابية.

وحتى في مفاوضات كامب ديفيد التي جرت عام 1979، أقنع الدعم السياسي الداخلي الضعيف الذي كان يتمتع به الرئيس كارتر بعدم مواجهة رئيس الوزراء الإسرائيلي بيغن بشأن القضية الفلسطينية. وعوضا عن ذلك، عمل كارتر على تحقيق الاستراتيجية الأميركية الأساسية المتمثلة في إبرام اتفاق سلام منفصل بين مصر وإسرائيل.

 

لقد تعاملت إدارة بايدن، مثلها في هذا مثل كيسنجر، مع دول المنطقة وحسب، كما أن الرئيس بايدن، مثله مثل كل من كيسنجر ونيكسون وأوباما وترمب، لا يولي اهتماما كبيرا للقضية الفلسطينية. لقد تجاهل الأميركيون القضية الفلسطينية لسببين: أولا، ثمة قليل من الاهتمام الذي يُبديه القادة الإسرائيليون والفلسطينيون بالدخول في المفاوضات. وثانيا، حتى السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت إدارة بايدن منصرفة إلى الاهتمام بحرب أوكرانيا، والمنافسة مع الصين أكثر من اهتمامها بفلسطين، وهو الأمر الذي يشبه تماما اهتمام نيكسون وكيسنجر باستغلال الانقسامات التي كانت قائمة بين الاتحاد السوفياتي والصين أكثر من اهتمامها بالشرق الأوسط قبل اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

 

وفي المناسبات التي ركزت فيها إدارتا ترمب وبايدن على منطقة الشرق الأوسط، فإنهما أكدتا أن الأعمال والنهوض الاقتصادي هما ما سيجلب الاستقرار إلى المنطقة، وليس العدالة للفلسطينيين. فقبل أربعة أسابيع فحسب من هجوم “حماس” على إسرائيل، انضم الرئيس بايدن إلى رئيس الوزراء الهندي مودي ورئيسة المفوضية الأوروبية فون ديرلاين في الإعلان عن مشروع لإنشاء ممر تجاري يربط الهند بأوروبا عبر شبه الجزيرة العربية وإسرائيل.

ووصف بايدن المشروع الجديد بأنه “صفقة كبيرة للغاية”، وزعم مستشاره للأمن القومي، جيك سوليفان، بأن المشروع سيغير المنطقة. وأشاد نتنياهو بالمشروع في خطابه أمام الجمعية العمومية في سبتمبر/أيلول الماضي. ويؤكد هذا الرأي أن الممر سيساعد على ترسيخ إسرائيل في اقتصاد المنطقة الأوسع، بينما يعيق في الوقت ذاته جاذبية مبادرة الحزام والطريق الصينية.

 

يُذكرنا الدافع للحد من النفوذ الصيني في المنطقة بالاستراتيجية المنسقة التي انتهجها هنري كيسنجر وريتشارد نيكسون أثناء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 لتحقيق التفوق الأميركي 

 

 

يأتي ذلك في أعقاب الجهد الأميركي المبذول للحد من التغلغل الصيني في منطقة الخليج، ولا سيما حث دول الخليج على عدم استخدام معدات الاتصالات الصينية، والضغط على الإمارات العربية المتحدة لعدم السماح لمشروع ميناء صيني بالمضي قدما بسبب احتمال استخدامه لأغراض عسكرية. وخلافا لما كان عليه الأمر عام 1973، أصبحت الأعمال التجارية حاليا بمنزلةِ استراتيجيةٍ في سياسة أميركا في الشرق الأوسط.

يُذكرنا الدافع للحد من النفوذ الصيني في المنطقة بالاستراتيجية المنسقة التي انتهجها هنري كيسنجر وريتشارد نيكسون أثناء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 لتحقيق التفوق الأميركي والحد من النفوذ السوفياتي في الحرب الباردة. وكما أوضح في كتابه “الأزمة” الذي نُشر عام 2004، فإن كيسنجر كان مصمما خلال الحرب الباردة، ليس على إخراج مصر من المعسكر السوفياتي وجلبها إلى الكتلة الأميركية وحسب، بل كان يهدف فضلا عن ذلك إلى السيطرة على عملية السلام بعد الحرب واستبعاد موسكو. ولتحقيق ذلك، ضَمِن كيسنجر أولا تحقيق إسرائيل لنصرٍ عسكريٍ في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بهدف إضعاف سوريا ومصر المتحالفتين مع الاتحاد السوفياتي. وساعد كيسنجر الجيش الإسرائيلي على هزيمة الجيش المصري الثالث غرب سيناء في المرحلة الأخيرة من الحرب من خلال تأخير وقف إطلاق النار الذي أقرته الأمم المتحدة والذي أراده الاتحاد السوفياتي. لقد استوعب السوفيات لعبة كيسنجر وهددوا بقوة بالتدخل بوحدات المشاة السوفياتية المحمولة جوا. ورد كيسنجر ونيكسون على ذلك التهديد بإصدار إنذار نووي، وإعلان التعبئة العسكرية الأميركية الكاملة، الأمر الذي أرعب موسكو.

 

 

وخلال تلك الفترة الفاصلة الأخيرة، حاصرت إسرائيل الجيش الثالث. ومن ثم اضطُرت القاهرة إلى طلب المساعدة من كيسنجر لتأمين الإمدادات الطبية والغذائية الحيوية لجيشها المحاصر، وضغط كيسنجر على الإسرائيليين المترددين لقبول وقف إطلاق النار. وأظهرت تكتيكات كيسنجر الصارمة مع الجيش الثالث، ولاحقا مع إسرائيل، أن الأميركيين فقط، وليس السوفيات، هم من يستطيعون تقديم التنازلات الإسرائيلية التي كانت الدول العربية تريدها.

لم يتمكن السوفيات من إيقاف كيسنجر عام 1974، وبعد مضي خمسين عاما، لا نسمع سوى القليل عن النفوذ العسكري الروسي في الشرق الأوسط خارج سوريا. ومع ذلك، لا يزال بوتين ذا شأن في القضية؛ فعلى سبيل المثال، لدى روسيا- وليس الأميركيين- قنوات مفتوحة مع كل من إسرائيل وإيران، ويمكنها من الناحية النظرية أن تساعدهما في فهم الخطوط الحمراء الجديدة لدولتيهما في المنطقة بعد الهجمات التي شُنت على غزة. فضلا عن ذلك، أصبح لدى بوتين حاليا اتصالات مباشرة مع قادة دول الخليج بطريقة لم تكن موجودة لدى القادة السوفيات. لكن الرياض وأبوظبي مهتمتان أكثر بالأعمال والاستراتيجية مع الصين والولايات المتحدة.

لقد أرادت الرياض وطهران أن تكون بكين الضامن لاتفاق التطبيع الذي أُبرم عام 2023، ولم تريدا روسيا. وفي الشرق الأوسط الحديث، يمكن لدول كالمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، الانضمام إلى مجموعة البريكس الصينية الروسية الهندية، بينما تسعيان في الوقت ذاته إلى إقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة؛ إذ تطلب الرياض من أميركا ضمانات أمنية ومساعدة في برنامجها النووي، ولا تطلبها من روسيا أو الصين. إن سياسة التوازن هذه ممكنة فقط قبل اللحظة التي تتدهور فيها علاقات واشنطن مع الصين إلى حد كبير. وبعد ذلك، وكما حدث مع كيسنجر ونيكسون في تعاملهما مع مصر أثناء الحرب الباردة، فإن الدول العربية سوف تواجه اختيارا أمام واشنطن: إما الانضمام إلى كتلة تقودها الولايات المتحدة، وإما عدم الحصول على معاملة تفضيلية من أميركا.

ومن العدل أن نتساءل إلى متى سيستمر تركيز حاملات الطائرات الأميركية وكبار المسؤولين على المنطقة؟ الجواب أمامنا: وزير الخارجية الإيراني حذر الأميركيين وإسرائيل في منتصف أكتوبر/تشرين الأول من أن حلفاء “المقاومة” سيتدخلون إذا اتسعت أزمة غزة. ولكن طهران تسيء فهم السياسة الأميركية. الغالبية العظمى من الجمهوريين والديمقراطيين تدعم إسرائيل بقوة. ويقوم مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون بإعداد تفويض لبايدن باستخدام القوة العسكرية ضد إيران ووكلائها إذا لزم الأمر.

 

من الممكن تصور ضربات أميركية ضد إيران نفسها إذا هاجمت إيران إسرائيل مباشرة

 

 

وكانت آخر مرة أصدر فيها الكونغرس مثل هذا التفويض عام 2002 قبل الحرب مع العراق. بل إننا رأينا عضوا جمهوريا في الكونغرس يرتدي الزي العسكري الإسرائيلي في مبنى الكابيتول! وهذا الدعم السياسي يتجاوز بكثير الدعم الأميركي للحرب ضد العراق أو حتى للحرب في أفغانستان. ومن السهل أن نتصور غارات جوية أميركية ضد “حزب الله” في لبنان. ومن السهل تصور ضربات أميركية ضد الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا وحتى العراق. بل من الممكن تصور ضربات أميركية ضد إيران نفسها إذا هاجمت إيران إسرائيل مباشرة. وسيكون رد الفعل الأميركي الحاد في جزء منه عاطفيا، بينما يهدف في جزء آخر إلى ردع إيران وحلفائها عن القيام بمزيد من العمليات العسكرية ضد إسرائيل.

السيناريو الأكثر إثارة للخوف هو سماح روسيا لإيران وحلفائها باستخدام القواعد العسكرية الروسية في سوريا ضد إسرائيل والأميركيين، ردا على مساعدة واشنطن لأوكرانيا. ومن الصعب معرفة إلى أين سيقود التصعيد بين واشنطن وإسرائيل من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى، ولكننا نعلم من التاريخ أن الحروب لها دائما عواقب قد لا تكون مقصودة.