يضع أستاذالتاريخ في كلية لندن الجامعية، ستيفن كونواي Stephen Conway، كتابه “حرب الثورة الأميركية: نبذة تاريخية” (ترجمة أسماء أمين – المركز القومي للترجمة) في سياق اختار معظم المؤرخين إما التقليل من أهميته أو ربما تجاهله، وهو تعدد أطراف تلك الحرب إلى الحد الذي يمكننا معه اعتبارها حرباً عالمية شهدها القرن الـ18. ويقول كونواي في هذا الصدد: “يميل المؤرخون الأميركيون إلى تسمية هذا الصراع (الحرب الثورية). هم يرون أنها كفلت الاستقلال لأميركا، وبذلك كانت جزءاً لا يتجزأ من الثورة نفسها”. ويضيف أن للصراع الذي بدأ في صورة ثورة سادت معظم مستعمرات بريطانيا في أميركا الشمالية عام 1775، وانتهى باعتراف بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة عام 1783 تجلياته المتعددة في المشهد الثقافي، في رواية “الجاسوس” (1831)، ورواية “ليونيل لينكولن” (1835) لجيمس فينيمور كوبر، وفي كتابات تمزج الواقع بالخيال كما في كتاب “روبل في الجيش” (1939) لكينيث روبرتس. وتناولتها مسرحيات عدة مثل “تابع الشيطان” (1897) لجورج برنارد شو، وأفلام مثل “ثورة” (1985) الذي ألفه روبرت ديلون وأخرجه هيو هودسون وقام ببطولته آل باتشينو وفيلم “الوطني” (2000) للمخرج رولاند إيميرتش وتأليف روبرت رودات، وبطولة ميل جيبسون.
وفي عام 1976 كانت الذكرى المئوية الثانية لاستقلال أميركا، مصدر إلهام لعدد هائل من الكتابات فتح معظمها آفاقاً جديدة، خصوصاً حول دور المرأة في الحرب والدور الذي قام به الأميركيون من أصول أفريقية. وفي الآونة الأخيرة -وفقاً لملاحظة كونواي في مقدمته لكتابه الصادر في طبعته الأصلية عام 2013– عاود المؤرخون التركيز على تلك الحرب وحاولوا فهمها من جديد لأسباب عدة، منها تعير الطبيعة السكانية الذي تشهده الولايات المتحدة، الذي يتجلى في أن الفئات التي كانت مهمشة أو مقصاة من السردية الأساسية –سواء كانوا السكان الأصليين أو الأميركيين من أصل أفريقي أو إسباني– صارت أخيراً تحظى بالاهتمام اللائق.
إعادة تقييم
في منتصف التسعينيات، نشر كونواي كتاباً يؤرخ للحرب نفسها “تاريخاً عاماً”، عبر دراسة تفصيلية حول أثرها في كل من بريطانيا وإيرلندا. وعقب ذلك قضى سنوات عدة في دراسة تاريخ القرن الـ18 من مختلف الزوايا والكتابة عنه وتدريسه، لذا صار يرى حرب الاستقلال رؤية جديدة، وصار يقدر أهمية أمور مر بها مرور الكرام أو ربما حتى أغفلها هو وغيره من المؤرخين في حقبة التسعينيات من القرن الـ20. لقد دفعته الدراسات الحديثة عن بريطانيا باعتبارها قوة أوروبية تتمتع بصلات مهمة بغيرها من الدول في أوروبا، لأن يعيد تقييم رؤيته الأولى للحرب، بل ويعدلها. بالمثل كان للدراسات التي أجريت في الأعوام القليلة الماضية على الجغرافيا، بخاصة جغرافيا المكان والمشهد والمسافة، الأثر ذاته في رؤيته للحرب. ولعله استفاد أكثر ما استفاد من الرؤى التي تكونت لديه حين عمل مع فريق دولي من الباحثين في برنامج يتبع جامعة نافار في إسبانيا.
بداية، يرى كونواي أن الحرب الأميركية (1775 – 1783) في مواجهة الإمبريالية البريطانية، “كانت أول ثورة شعبية كبيرة يشهدها العالم، ثورة تحددت معالمها الأيديولوجية بصدور إعلان الاستقلال رسمياً عام 1776 ليتخذ الصراع من بعد ذلك طابعاً أسطورياً. يقول “أضحى الصراع بكل مجرياته– من حفلة شاي بوسطن إلى رحلة بول ريفير ليحشد قرى نيو أنجلند أمام تقدم الجنود البريطانيين ذوي المعاطف الحمراء، ومن التعثر الأميركي في تل بانكر (1775) إلى الاستسلام البريطاني المهين في بوركتاون (1781)– رمزاً للهوية الأميركية. يقدم ستيفن كونواي في هذا الكتاب رؤية تتجاوز “أسطورية الصراع”، موضحاً أنه لم يكن محض صراع محلي، بل صراع قوة بالأساس بين بريطانيا وفرنسا. كانت المستعمرات الـ13 جبهة واحدة فقط لمسرح ممتد من العمليات العسكرية، تسعى فيها كل قوة عظمى لأن توجه لمنافسيها الضربة القاضية. يطرح الكاتب رؤية تاريخية جديدة وجريئة تدرك الحرب بصفتها ثورة بالأساس، ولكن تضعها في السياق العالمي الأكبر للحرب بين الدول الأوروبية.
حرب أوروبية
ويقول كونواي: “إن كنت أتبنى وجهة نظر ترى عالمية هذه الحرب، فهذا لا يعني أنني أغفل وجهة النظر الأميركية. فهذه الأبعاد الدولية للحرب أهمت الأميركيين مثلما أهمت البريطانيين والفرنسيين والإسبان والهولنديين. ظفر الأميركيون بالحرب حين تحقق لهم الاستقلال السياسي عن بريطانيا، في حين لم يكن هذا هدفهم من الحرب حين أطلقت الأعيرة النارية الأولى في ليكسينغتون وكونكورد”. ويضيف “كانت حرباً عالمية، مثلما كانت صراعاً من أجل مستقبل أميركا. فمنذ 1778 حين اشتركت فرنسا في الحرب، لم تعد حرب الاستقلال مجرد حرب من أجل أميركا، بل امتدت لتشمل جميع المواقع التي تجمع بين الإنجليز والفرنسيين ويتنافسان عليها، ألا وهي جزر الكاريبي وغرب أفريقيا وآسيا، فيما واجهت بريطانيا وإيرلندا خطر الغزو”. ويستطرد أنه في صيف 1779 ازداد خطر أن يحل عدو بالجزر البريطانية، عندما شاركت إسبانيا في الحرب، فقد فاق عدد أساطيل البوربون مجتمعة سفن البحرية الملكية. وكان للتدخل الإسباني الأثر الأكبر في توسيع نطاق الحرب جغرافياً، إذ صارت أميركا الوسطى مسرحاً حربياً، وسرعان ما بدأت الحكومة البريطانية تدبر خططاً طموحة لتوسعة نطاق الحرب إلى المحيط الهادئ. في الوقت نفسه كان على وزراء بريطانيا أن يفكروا تفكيراً دفاعياً، إذ أصبحت قواعدها في جبل طارق ومينوركا في البحر المتوسط عرضة للهجوم من الأعداء.
انضمت هولندا إلى الحرب بنهاية 1780 ليتسع نطاق الصراع مرة أخرى فقد استهدفت القوات المسلحة البريطانية قواعدها المنتشرة في جزر الهند الغربية وغرب أفريقيا ورأس الرجاء الصالح وجنوب آسيا، هذا فضلاً عن أن هذه الحرب “العالمية” قد استمرت حتى بعد انتهاء معركة بوركتاون. وهنا تجدر الإشارة إلى أن انتصار الفريق رودني في معركة سانتس في أبريل (نيسان) 1783 أنقذ جزيرة جامايكا من غزو فرنسي– إسباني. ويقول كونواي: “حتى يومنا هذا يقف تمثال الفريق رودني في ثوب كلاسيكي للنحات جون بيكون وهو يحدق تجاه ميدان المدينة الإسبانية مثل إمبراطور روماني، ليذكرنا بأهمية هذا النصر لعلية القوم من أصحاب المزارع بالجزيرة”.
وفي العام نفسه الذي حمت فيه سفن الفريق البحري رودني، جامايكا، سيطرت القوات البريطانية على مراكز تجارة الرقيق الهولندية في غرب أفريقيا. كان الحصار حول جبل طارق لا يزال قائماً حين تم التوقيع على بنود السلام الأولية. أما في الهند القصية، فاستمرت الحرب لشهور بعد أن اتفق المفاوضون في باريس على معاهدة السلام.
مكاسب وخسائر
ويلاحظ أن بريطانيا تتبنى وجهة النظر العالمية هذه، إذ كان البريطانيون هم من يحاربون في جميع هذه الساحات براً وبحراً، وهم من كانت لهم الحرب صراعاً عالمياً بحق. وهنا يؤكد كونواي أنه يرغب، من خلال كتابه هذا، في إقناع القراء أن يروا الحرب، ليس مثلما رأتها الحكومة البريطانية وبحسب (وإن كان منظوراً ذا قيمة ويوحد بين مجموعة من الصراعات تبدو في ظاهرها متفرقة) ولكن أيضاً من وجهة نظر القوى الأوروبية. ويوضح أنه بالنسبة لخصوم بريطانيا من الدول الأوروبية وللبريطانيين أنفسهم، عنت الحرب أكثر من مجرد صراع يدور في أميركا ومن أجلها. كانت الحرب للحكومة الفرنسية فرصة لتقويض قوة بريطانيا التي زادت كثيراً بعد حرب السنوات السبع (1756 – 1763) ولاستعادة مكانة فرنسا وأراضيها التي فقدت، وإن أمكن تجريد بريطانيا من مستعمراتها في أميركا الشمالية، وتعزيز وضع فرنسا في جزر الهند الغربية وغرب أفريقيا وفوق كل ذلك، في آسيا. بالمثل قدمت حرب الاستقلال للحكومة الإسبانية فرصة لاستعادة أقاليم فقدتها. أتت فلوريدا –التي أرغمت على التنازل عنها بنهاية حرب السنوات السبع– على رأس القائمة التي ضمت أيضاً ممتلكات كانت قد فقدتها منذ أمد، مثل جبل طارق ومينوركا، وحتى جامايكا التي سيطر عليها الإنجليز عام 1655. انضمت هولندا إلى الحرب على مضض إذ أجبرتها بريطانيا عليها. ولكم كانت لهولندا طموحات عالمية أيضاً، وإن كانت دفاعية الطابع، فقد كانت تسيطر على جزر في البحر الكاريبي ولها موضع مكين في البر الرئيس في أميركا الجنوبية، وامتدت مواقعها التجارية على شكل قوس ضخم ينتشر من الساحل الغربي لأفريقيا، ثم جنوباً إلى رأس الرجاء الصالح، وعبوراً إلى الهند وسايلون (سريلانكا حالياً) وجزر الهند الشرقية.
بعد الحرب
وفي ما يخص إسبانيا فقد استعادت بعض الأقاليم على المدى القصير، ولكنها مضت بعد ذلك تخسر معظم إمبراطوريتها الأميركية، وتلك العاقبة طويلة المدى تعود في الأقل في بعض جوانبها إلى الأثر الذي خلفه نجاح الثورة في 13 مستعمرة من مستعمرات بريطانيا في أميركا الشمالية. وكذلك أسهمت حرب الثورة الأميركية فيما آل إليه الحكم الإسباني من انهيار في أميركا الوسطى والجنوبية… “بل حتى الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن النظر إليها باعتبارها المنتصر الواضح والصريح. فذلك الاستقلال السياسي لم يقترن باستقلال اقتصادي وثقافي لسنوات عديدة” ص 236.
بدت بريطانيا الخاسر اسمياً في هذه الحرب، ولكن سرعان ما بدأت جموع كبيرة من شعبها تستحسن أنهم احتفظوا بكثير من مزايا العلاقة الإمبريالية القديمة مع المستعمرات الأميركية من دون تحمل عبء نفقاتها واتسعت الإمبراطورية البريطانية الكبرى في غضون سنوات قليلة لتصير أكبر مما كانت عليه، قبل حرب الثورة الأميركية، كما يؤكد كونواي. ويضيف المؤلف في خاتمة كتابه: “في المقابل ذاق من يحسبون على الجانب الفائز عواقب أكثر مرارة على مدار العقود التالية. أبرز هذه العواقب أن انهارت الأنظمة القديمة في كل من فرنسا وهولندا، ويعزى ذلك جزئياً إلى التداعيات المادية في حالة فرنسا والسياسية في حالة هولندا لاشتراكهما في الحرب”.