الفنان مع لوحة أم الشهيد

الفنان مع لوحة أم الشهيد

من أعماق الجراح في سوريا، من خرابها ومجازرها وأهوالها، من دموع الأطفال والقتلى والمعذبين في الأرض، من حرب الإبادة في غزة، من “طوفان الأقصى” في فلسطين المحتلة، تأتي إلينا أعمال الفنان السوري يوسف عبدلكي ببهائها وسموّ تعبيريّتها الهائلة وواقعيتها الغرائبية التي تخطف الأنفاس وتصدم الوعي.

وذلك في المعرض الذي تنظّمه نايلة كتانة كونغ في غاليري تانيت (مار مخايل – يستمر حتى 23 الجاري)، متضمناً ما يفوق الـ 30 رسماً بأحجام متوسطة وكبيرة (فحم على ورق)، تفتح نوافذ الروح على وجع دفين، ببلاغة الرموز الاستعارية التي ترتمي في الشعر، بالمشهدية الآسرة لطبقات الألوان الفحمية المخضبة بنور خفيّ وحاد كحافة السكين المسنونة والمغروزة في لحم الطير، كالأشياء المبعثرة والمتطايرة بفعل القصف على المنازل والأحياء السكنية. تلك الأشياء التي أضحت بحكم المخلّفات البشرية، المتبقية كآثار شاهدة على عذابات الإنسانية جمعاء.

لكأنّ الذين رحلوا تركوا أشياءهم كي تنوب عنهم، كالزجاجات الفارغة، كالزنابق التي قُطعت أعناقها بالسكين، كالحبل المتدلي الذي يذكّر بالمشنقة، كالعصفور الميت، كالزهريات الغارقة في صمتها الكئيب وقد تلطّخت بالدماء. وكثيراً ما نثر يوسف عبدلكي ضمّات الأزهار على قبور باردة كي ترقد بسلام إلى جوار صور الراحلين الذين لم يعد لهم أسماء ولا وجوه ولا ملامح ولا ماضٍ، لم يبق منهم سوى ظلال ذكريات. لا شيء سوى بحيرات الدم على الأرض وقد اختلطت بآثار أقدام.

بعد مسيرة طويلة من النضال السياسي والاعتقال والنفي، ينبري يوسف عبدلكي (من مواليد القامشلي- 1951)، كواحد من كبار التعبيريين المعاصرين الذين أحدثوا انعطافاً في قراءة التاريخ، بعنفه وسردياته وتداعياته، من خلال لغة تقبض على الواقع وهي تروي حكاية النزف، من داخل غرف سوداء لا تعرف نهاراً ولا تشرق فيها شمس، حيث يُرينا مجراه وسيلانه، يرينا سمكة عملاقة في طبق الطعام وهي في سقوط عمودي نحو القعر. وسمكة عبدلكي ليست سمكة- على حدّ قول الكاتب آلان جوفروا: “إنها سهمٌ، شعاع، تنفسٌ، دعوة مهموسة للحياة، لا أعرفُ هل هي سمكة سلمون أو سردين، لكنها سمكة تطير كما العصفور في الليل… وهذه الرأس الكبيرة تحدّق فينا، كما لو أنّ صورة الموت بالنسبة لعبدلكي أكثر حياة من صورة الحياة نفسها”.

في ظلّ ذلك الأسود العاري كالجدار والكثيف لفرط ما هو مأتمي، ثمة صراخ مكتوم وتمزقات وكوابيس تستيقظ من أوكارها إلى عرض الشارع، بل إلى خرابه الشاسع إلى صورة أدوات القتل البدائية (الساطور والسكاكين)، والأحداث المتنقلة في الساحات العربية، لكأنّها صورة واحدة لزمن المجازر والعنف.

إنّها الأيقونية المهيبة التي تتجلّى لناظريها كمفردات أحادية مقتلعة من جرف عظيم، بقوة التعبير والرموزية العنيفة، والتعارض الصراعي بين النور والظلمة والأحمر اللاذع بين ثناياه.

فالأشياء قد خرجت عن طبيعتها الصامتة المحايدة التي عهدناها في تيمة “الطبيعة الصامتة أو الميتة”، إلى البوح عن الواقع المرير الذي يتخطّى أي توصيف كلامي للفجائع نحو بلاغة التصوير، بل نحو الإدانة والاتهام. ومثل أنفاس ضئيلة بين الحياة والموت كذلك الأسود والأبيض يتبديان لغةً قائمة بذاتها في فن الرسم الذي لا يحتاج لأكثر من ورق وفحم كي يتحقق، ولكن بأي قلب وبأي شعور وبأية مخيلة؟

الفاجعة نغمة سوداء في ليل العالم

من يتبع أحوال مسرى الدم في أعمال يوسف عبدلكي يدرك الكيفية التي تمّ بها القتل. إذ إنّ بقع الدم التي دخلت على ثنائية الأسود والأبيض في نتاجه الأخير تتلبس المعنى الراهن، وهي تسعى للقبض على الحدث الساخن. بين سيلان الدم من اليد أو من فجوة خلف الرأس ومن ثم البقع الانفجارية المتشظية ورذاذها على الصحون والأواني والزهريات وأباريق الشاي التي كانت وحدها شاهدة على الرعب الذي تنبري أدواته الهمجية، من خلال نصل عملاق يتبدّى مثل نصبٍ أو وثن. وهو مجرد كناية ظاهرة، تتكشف عنها مآسٍ خرجت هذه المرّة عن دائرة المفردة الوحيدة التي اعتدنا رؤيتها في بؤرة الوسط في أعمال الفنان، إلى نوع من السِيَر الملحمية الطابع، كلوحة ام الشهيد وسلسلة لوحات النزوح، وهي تجسّد مشهديات متنوعة لألبوم صور العائلات التي نزحت، لاسيما بعد مجازر درعا ودوما، وقد دخلت على بعض هذه الأعمال نصوص شبيهة بالكتابات العفوية على الجدران التي باتت من سيمياء هذا العصر. وهي كتابات سائلة بحبرها وبياضها على جدران هشة متهالكة، تذكر بمضامينها مقاطع من القص الشعبي والروايات الشفهية التي خلّدت دمشق عبر الأزمنة كجنة رياحين وأنهار عذبة. لكن يوسف عبدلكي يستنبط قراءة جديدة للتاريخ، في عمل جداري، يتقاطع فيه الزمان والمكان بغرابة مأسوية، تتمثل بهامة القديس «يوحنا فم الذهب» الذي يبدو مسجى في جامع الحسين بحيّ الميدان في دمشق. لكأنّ شهادة القديس ما زالت مأثرتها حيّة في الراهن، وطغاة الماضي هم طغاة الحاضر أنفسهم مهما اختلفت العقائد والأديان.

 

يرسم يوسف عبدلكي حالات الحضور في الغياب، كي يجسّد الفاجعة كنغمة سوداء في ليل العالم الذي يزداد جدباً وعجزاً حيال المأساة السورية. لذا، يرسم الضحايا كعصافير وأسماك في سكون ليل ينحدر من السماء كطيف من كتمان يطوي صفحات المجازر والبؤس وآلام الهجرات.

في سحابة ألوانِه السوداء تتجول أصوات الأحزان فوق قامات الضحايا. فالكل يلمع في الظلمة حتى عيون الموتى اللزجة وعيون الأمهات الثكالى اللواتي يحسبن أعمار الأطفال الراحلين على الأصابع.

فالأمهات غارقات في عتمة البكاء الدفين، وهن يحملن صور العائلة إلى ممالك الجدران المتصدّعة. هكذا يرسم عبدلكي وسادة عباءات السماء وهي تختلط بالسواد الذي يتسلّق جداول الدم التي تتشرد في أحشاء الدمار، وعلى جدران البيوت التي تتلوى وتنحني وهي تشق شرايين العتمة كي تموت مثل أصحابها مرّة واحدة. فالعتمة أشبه بسكين تخترق الأجساد والقلوب كي تمتطي سديم أحوال الجحيم في فصول خرائب الوطن المفقود، وهي تتوغل في قلب الفاجعة وتنسكب كضوء يكشف ملامح الضحية، لذا يسترسل الضوء في زيارات سرّية للمآتم، كي يواسي الأحزان التي تهبط وهي متشحة بالصمت، الصمت الذي هو أصل الخطيئة.

 

 شهادات من زمن الرعب

لطالما كان الرسم رفيق الإنسان، وهو الفن الذي لا يحتمل المساومة- على حدّ قول المصوّر الفرنسي الشهير آنغر، ويوسف عبدلكي قد أعاد لمهنة الرسم مجدها المفقود بين مجايليه، ليس ككتابة للشكل مشابهة لصورته في الواقع المرئي فحسب، بل كعاطفة منبثقة من غشاء القلب إلى صميم التعبير الإنساني.

 

لذا، فإنّ مسرحة الواقع تبدو مختلطة بروح التداعيات والإلهامات، كي تبدو قطعاً مقطوفة من الحياة، بل ككائنات متوحّدة ومعزولة آتية من فُتات الوجود.

لعلّ الوجودية هي العنصر الأبقى المتأتية من البراعة التقنية التي يمتاز بها يوسف عبدلكي، ما يجعل مقاربته للأشياء على بساطتها لغة جمالية شديدة التفرّد والتعقيد. إذ الفراغ الكبير الذي يحوط جمجمة أو غصناً أو إناء أزهار أو سمكة أو فاكهة، ليس إلا فضاء لتأويلات بصرية بين عتمة السواد ودرجات الرمادي وحركات الظلال وما يكتنفها من زيوح ومسارات متحركة على سطحٍ شبيه بسطح المحفورة الطباعية.

وقد يصح القول عنها إنّها خلفية ولكنها ليست مجردة وصامتة كما يبدو، بل هي شريكة في الألم والوحدة، حين يكون الموضوع متربعاً وسط اللوحة بحسيّة مادية مستقاة أساساً من جذورها في موضوع الطبيعة الصامتة.

 

لكنّ يوسف عبدلكي خرج عن صمته ومواربته الإيحائية السابقة إلى لملمة الجراح والاعتراض، قرّر ألّا يسلك طريق الوهم، بل أن يستنبط من الواقع رموزه الدالة كي يصفها بحدودها الخارجية وأشكالها السكونية، كي تبدع وجوداً داخلياً يجد طريقة للرؤية تتنامى تحت تأثير الخيال.

فإنّ استكشاف أداة ينهي ارتباطها تشكيلياً بالوجود الخارجي للأشياء الاعتيادية كي تستقر اللوحة ليس في ماضيها، بل كي يصبح الزمن الذي تتحرّك فيه اللوحة مَعبراً نحو المستقبل بعد أن يتحقق انفلاته من الحاضر. لذا، جاءت أعماله شهادات عن زمن الرعب الذي لا يُنسى.