يُعقد في نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة تغير المناخ (كوب 28) في دبي. هناك مجال خلال هذا المؤتمر لإبراز وشرح إمكانية ضم البترول (النفط والغاز) المنخفض الانبعاثات، وتخزين ثاني أكسيد الكربون في الآبار والكهوف الفارغة من أجل ضمه إلى سلة الطاقة المستقبلية، بجانب الطاقات المستدامة. لكن رغم تحسن الفرص الآن، فإنه لا تزال العقبات هناك.
إن المؤشرات لضرورة استمرار الهيدروكربونات كثيرة. هناك الازدياد المستمر لاستهلاك البترول، فقد ارتفع معدل زيادة الطلب على النفط خلال سنة 2003 نحو 2.2 مليون برميل يومياً ليسجل ما مجمله 102.2 مليون برميل يومياً؛ ما يعني ارتفاع الطلب العالمي عن معدلاته قبل جائحة «كورونا». ويعزى السبب الرئيسي للارتفاع إلى زيادة السفر الجوي خلال فصل الصيف، وزيادة تغذية النفط محطات الكهرباء، وازدياد إنتاج الصناعة البتروكيماوية الصينية.
وما يدعم قطاع البترول أيضاً، هو التجربة الصعبة خلال جائحة «كورونا» وحرب أوكرانيا؛ فقد عانت بعض الأقطار الأوروبية بالذات مع الحصار المعلن على البترول الروسي، نقصاً في إمدادات الطاقة وارتفاعاً في الأسعار. تبين على إثره أنه من الضروري المحافظة على استهلاك البترول، بالإضافة إلى استعمال الطاقات المستدامة، إذ إن الاكتفاء بالطاقات المستدامة فقط تجعل من الصعب إمكانية الاعتماد عليها بشكل مستمر دون انقطاعات. كما هو الأمر في حال الطاقة الشمسية والرياح. فالقدرة التخزينية للطاقات المستدامة لا تزال محدودة، حيث يتطلب الأمر المزيد من الأبحاث لتحقيق ذلك. من ثم، والكلام هنا هو حول البترول المنخفض الانبعاثات ليصاحب الطاقات المستدامة، فإن غياب الشمس أياماً متواصلة قد يؤثر سلباً في فاعلية الطاقة الشمسية، وكذلك الأمر بانقطاع الرياح. من ثم، توجد ضرورة لتوافر المصدر الهيدروكربوني لمساندة الطاقات المستدامة عند الحاجة. ناهيك عن استخراج الهيدروجين (وقود المستقبل) من البترول، أو الاستمرار بالبترول في بعض المجالات الاستهلاكية الحالية له، مثل وسائل النقل التي من غير الممكن الاستغناء عنها جميعاً عقوداً عدة بعد عام 2050.
شهدت الفترة الأخيرة مؤشرات لنشاطات مهمة في استثمارات الصناعة النفطية، مؤشرات لا تدل البتة على أن صناعة النفط قد استنفدت مهامها، كما يدعي البعض. فمن الملاحظ أن الاستثمار الرأسمالي لـ«أرامكو السعودية» للفصول الثلاثة الأولى لعام 2023 بلغ 30.24 مليار دولار (أو زيادة 16.4 بالمائة على الاستثمارات في مشاريع جديدة للشركة عن عام 2022). كما أن «أرامكو السعودية» تستثمر مع شركات أخرى في مشروع الطاقة الشمسية الكهروضوئية «شعيبة -1» و«شعيبة – 2». وتبلغ حصة «أرامكو السعودية» في المشروع 30 بالمائة حيث تبلغ طاقته الإنتاجية 2.66 غيغاواط، ومجمل تكلفة مشروع الطاقة الشمسية هذا 2.37 مليار دولار.
والملاحظ أيضاً شراء شركات نفطية عملاقة لشركات نفطية أخرى؛ فقد اشترت «اكسون موبيل» شركة «بايونير» النفطية النشطة بإنتاج النفط الصخري بقيمة نحو 60 مليار دولار، كما اشترت «شفرون» شركة «هيس» النفطية بقيمة 53 مليار دولار. لقد ساعد ارتفاع أسعار النفط مؤخراً على توفير سيولة مالية وافية للشركات العملاقة لعمليات الدمج هذه. لكن السؤال هو: لماذا تزيد هذه الشركات العملاقة من احتياطاتها النفطية الضخمة وأصولها النفطية الكبيرة مع اقتراب موعد تصفير الانبعاثات في عام 2050؟ والجواب هو القناعات التي توصلت إليها أطراف عدة، من بينها شركات النفط على ضوء تجربة السنوات الأخيرة إلى استمرار الحاجة الماسة للوقود الهيدروكربوني بسبب الزيادة السنوية للطلب على النفط في قطاع المواصلات والطلب على الغاز لتوليد محطات الكهرباء.
فشركات الغاز المسال تعقد مفاوضات مع الأقطار الأوروبية لتوقيع اتفاقات لتصدير الغاز المسال لعقود مقبلة. وهنا أيضاً يطرح السؤال: كيف ستوفق الأقطار الأوروبية ما بين التزاماتها لتصفير الانبعاثات بحلول عام 2050 وعقود استيراد الغاز المسال لفترة مستقبلية طويلة الأمد تتجاوز عام 2050؟ والجواب هو أن هناك قناعة لدى كل من الدول المستوردة للبترول والشركات الغازية أنه يتوجب التوصل إلى حلول وسطى، لا سيما أن التقديرات الأولية أخفقت في تقدير زيادة الاعتماد السنوي المستقبلي على الغاز، ومن ثم محاولة تلافي النقص.
وقد وقعت شركة «قطر للطاقة» مؤخراً 3 اتفاقات لتزويد الغاز المسال لعقود طويلة (لمدة 27 سنة) للسوق الصينية؛ فقد وقّعت «قطر للطاقة» عقداً مع شركة «سينوبيك» لتزويد 3 ملايين طن سنوياً من الغاز المسال ابتداءً من عام 2026 وحتى أوائل عقد الخمسينات. وشمل العقد إضافة إمكانية شراء «سينوبيك» 5 بالمائة حصة في جنوب حقل الغاز الشمالي من خلال عقد مشاركة لإنتاج 6 ملايين طن سنوياً. وكانت الشركة الصينية قد تعاقدت قبل سنة مع «قطر للطاقة» لاستيراد 4 ملايين طن سنوياً من شرق حقل الغاز الشمالي. كما وقعت «سينوبيك» في شهر أبريل (نيسان) الماضي عقداً لشراء حصة 1.25 بالمائة في مشروع لحقل غاز الشمال يبلغ إنتاجه 4 ملايين طن من الغاز المسال. تشكل هذه الاتفاقات المتعددة تصميم الصين الاستمرار في استهلاك الغاز بعد عام 2050. وكما هو معروف تستورد الصين كميات ضخمة من الغاز الطبيعي عبر شبكة أنابيب تمتد من حقول غاز شرق سيبيريا الروسية تم الضخ من أحدها، والأنبوب الثاني قيد الإنشاء. تدفع الاستثمارات المليارية في مشاريع هيدروكربونية عدداً من الدول المنتجة والمستهلكة والشركات إلى الإلحاح لتبيان ضرورة سياسة براغماتية أكثر واقعية من مؤتمرات كوب.
ومن المتوقع طرح وجهة النظر هذه في مؤتمر «كوب 28» المقبل في دبي. لكن، من المتوقع أيضاً أن ترفض حركات الخضر الموجودة في المؤتمر الإشارة إلى استمرار استعمال البترول ولو المخفض الانبعاثات؛ فالحقيقة هي أن هذه الحركات قد تبنت موقفاً عقائدياً ضد البترول، فالمهم بالنسبة لها، استبعاد البترول بوصفه مصدراً طاقوياً، بغض النظر عن انخفاض الانبعاثات الكربونية منه.من المتوقع أيضاً أن تتبنى معظم الدول الصناعية الغربية مواقف حركات الخضر، رغم أن بعض هذه الدول بدأت تراجع سياستها هذه، وتعيد النظر في المواعيد التي كانت قد حددتها سابقاً لإيقاف سيارة محرك الاحتراق الداخلي (المستعملة للبنزين أو الديزل) والاقتصار على مبيعات السيارة الكهربائية، كما أعلن عنه في بريطانيا مؤخراً؛ إذ استطاعت هذه الحركات استقطاب تأييداً واسعاً في صفوف الشباب، بل أسست أحزاباً، وحصلت على مقاعد نيابية في بعض البرلمانات الأوروبية، كما تعيين وزراء في الحكومات الغربية؛ لذا لن يكون من السهل معالجة الخلاف خلال هذا المؤتمر، إذ سيتطلب الأمر سنوات أخرى لكي تتبنى أولاً حكومات الدول الصناعية مواقف مستقلة عن طروحات حركات الخضر.
من الواضح أن هذه المجابهة داخل الدول الصناعية لم تبدأ بعد، إذ ستواجه حكومات هذه الدول مواجهات متعددة من حركات الخضر، فهي مسألة داخلية يتوجب على حكومات الدول الصناعية التعامل معها لإقناع الرأي العام الداخلي بواقعية الحل البديل المطروح من قبل الشركات والدول المنتجة: استعمال النفط والغاز المنخفض الانبعاثات بالإضافة إلى الطاقات المستدامة، نظراً لأن استهلاك الطاقة العالمي في ازدياد مستمر، فالحل الوسط هو أن يؤخذ بنظر الاعتبار تقليص الانبعاثات الكربونية بوصفه حلاً ممكناً لمكافحة تغير المناخ، بالإضافة طبعاً إلى إعطاء الاهتمام اللازم لتشجير الغابات، وترشيد استهلاك الطاقة في المدن.
هذا، ووقّعت 130 شركة عالمية في 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي رسالة مفتوحة تطالب فيها الحكومات بإعارة الاهتمام اللازم للاستمرار في استعمال الوقود الأحفوري لاستهداف تنفيذ «اتفاق باريس»، والحد من ارتفاع درجة الحرارة أكثر من 1.5 درجة مئوية. ذكرت الشركات في رسالتها أنها تعاني، كما غيرها، من المتغيرات المناخية الحادة، ما يؤثر في أعمالها وأرباحها. ولكن طالبت بتحديد «مواعيد أكثر واقعية».