ينظر البعض إلى العودة المفاجئة لرئيس الوزراء البريطاني الاسبق، ديفيد كاميرون، كوزير جديد للخارجية على أنها محاولة أخيرة من قبل ريشي سوناك لإحياء حظوظ حزب المحافظين قبل الانتخابات العامة البريطانية المقبلة، المتوقع إجراؤها العام القادم.
كان كاميرون قد أدار ظهره للسياسة البريطانية في الخطوط الأمامية، بعد استقالته من منصب رئيس الوزراء البريطاني في أعقاب استفتاء بريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، عام 2016، فترك مقعده في البرلمان وركز اهتمامه، بدلا من ذلك، على الأنشطة التجارية الربحية، التي لم تخل من إثارة الجدل في بعض الأحيان.
والحقيقة أن كاميرون قد وضع كل رصيده السياسي في حملة إبقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، خلال الاستفتاء على بريكست الأوروبي، ولذلك كان شعوره بخيبة أمل شديدة حين جاءت النتيجة النهائية على عكس ما راهن عليه، فصوّت الشعب البريطاني لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، وإن كان بفارق ضئيل.
ومن أجل ذلك يُنظر الى عودة كاميرون، غير المتوقعة الآن، إلى الواجهة الأمامية كوزير جديد للخارجية البريطانية في التعديل الوزاري الواسع النطاق الذي أجراه سوناك هذا الأسبوع، على أنها محاولة من سوناك لتحسين علاقة بريطانيا التجارية مع الاتحاد الأوروبي بعد خروجها منه؛ وسعيا منه لإحياء مكانة بريطانيا في الشؤون العالمية.
إذا كان سوناك يريد من تعديله الوزاري الجريء مفاجأة منتقديه، فمن المؤكد أن عودة كاميرون ساعدته على تحقيق هدفه، الذي فاجأ مجتمع الصحافة السياسية البريطانية بأكمله، إذ لم يكن أي صحافي ليتوقع مثل هذه الخطوة، وهو أمر نادر بالنظر إلى كيفية تسريب معظم التعيينات السياسية الحساسة في المملكة المتحدة مسبقا.
ومن المؤكد أن التعديل الوزاري الذي أجراه سوناك بغية إنعاش حظوظه السياسية المتدهورة، كان دراماتيكيا أكثر من المتوقع، فقد كانت معظم التوقعات تصب لصالح إقالة وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان، بعد أن قامت مؤخرا بسلسلة من التدخلات المثيرة للجدل، سواء بشأن قضايا حساسة مثل الهجرة غير الشرعية، أو المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في لندن، التي أثارت جدلا كبيرا، بعد أن باتت آراؤها اليمينية متداولة على نطاق واسع، يشيد بها أنصار الحزب المخلصون.
ولم يكن أمام سوناك سوى القليل من الخيارات، خاصة بعد أن تحدت سويلا بريفرمان علنا رغبات داونينغ ستريت من خلال نشرها مقالا ينتقد بشدة طريقة تعامل الشرطة البريطانية مع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين الأخيرة، في لندن، والتي شابها بعض الهتافات المعادية للسامية بشكل علني.
ويعتقد جملة من المراقبين السياسيين أن آراء بريفرمان الصريحة هي جزء من محاولتها وضع نفسها في مصاف قيادة حزب المحافظين في حالة خسارة سوناك الانتخابات العامة المقبلة، وهو ما سيفتح الباب واسعا أمام منافسة جديدة على القيادة.
ومن المثير للدهشة أن عزلها المفاجئ من مجلس الوزراء قد يؤدي في الواقع إلى تعزيز آفاق قيادتها على المدى الطويل، والتي يمكن تنسيقها بشكل أفضل من المقاعد الخلفية. بل إن البعض يشير إلى أنها ربما تعمّدت إطلاق تصريحاتها المثيرة للجدل في الأيام الأخيرة، فيما يتعلق بقضايا مثل التشرد وشرطة العاصمة، لكي تسبب الضرر لنفسها مرحليا، لأنها تعتقد أنها ستفيد في نهاية المطاف طموحاتها السياسية على المدى الطويل.
ومن المؤكد أن تعيين كاميرون الذي يُنظر إليه كشخصية محافظة أكثر اعتدالا، وإقالة بريفرمان، يشيران إلى تحول من اليمين إلى الوسط في السياسة البريطانية، وهو ما يأمل سوناك أن يساعده في إحياء حظوظه السياسية.
وقد كان العنصر المهم الآخر في التعديل الوزاري الذي أجراه سوناك هو تعيين وزير الخارجية السابق جيمس كليفرلي بدلا من بريفرمان في وزارة الداخلية.
ومع ذلك، فإن تعيين كاميرون سيُستقبل بلا شك بمشاعر متضاربة بين كثير من أعضاء البرلمان المحافظين، الذين يعتبرون رئيس الوزراء السابق شخصية مثيرة للانقسام بوصفه مهندس التقشف في أعقاب الانهيار المالي عام 2008، ورئيس الوزراء في الفترة التي شهدت تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. كما يتذكر كثيرون سياسة إدارته الخارجية ودوره في الإطاحة بالديكتاتور الليبي العقيد معمر القذافي، وإغراق ليبيا في حرب أهلية مريرة.
ومن المؤكد أنه سيتم طرح أسئلة تتعلق بأسباب عدم عثور رئيس الوزراء على مرشح بين النواب الحاليين ليصبح وزيرا للخارجية، ولماذا لم يلجأ إلى حليف مثل وزير الأعمال، كيمي بادينوش، أو وزير المساواة، مايكل جوف، لشغل هذا المنصب.
ولقد أعرب السير ليندسي هويل، رئيس مجلس العموم، عن مخاوفه بالفعل بشأن تعيين ديفيد كاميرون والخروج الجدير بالملاحظة عن التقليد المتمثل في وجود وزير الخارجية البريطاني في مجلس العموم، كما كان الحال مع أسلافه الأخيرين.
وفي بداية أعمال مجلس العموم، بعد تعيين كاميرون، صرح هويل بأن خطورة الوضع الدولي الراهن والحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، تحتم، بشكل خاص، ضرورة التدقيق بشكل فعال في عمل مجلس العموم ووزارة الخارجية. وقد كلف هويل موظفي مجلس العموم بالعمل على ضمان أن يكون وزير الخارجية الجديد “مسؤولا بشكل مناسب” أمام مجلس العموم. وسيكون اللورد كاميرون أول موظف سام في الدولة يجلس في مجلس اللوردات منذ حكومة مارغريت تاتشر في التسعينات.
وعند تعيين كاميرون في أحد أعلى أربعة مناصب في الدولة، اختار سوناك تجاهل ارتباطه الوثيق بواحدة من أكبر الفضائح المالية في المملكة المتحدة في السنوات الأخيرة؛ فقبل عامين كشفت “بي بي سي بانوراما” عن وثائق داخلية تشير إلى أن كاميرون حصل على نحو 10 ملايين دولار (8.2 مليون جنيه إسترليني) لقاء سفر حول العالم روج فيه لشركة “غرينسيل كابيتال” المالية المثيرة للجدل.
وبعد أن انهارت شركة “غرينسيل” حصل رئيسها، المجلل بالعار غرينسيل، على مكتب في داونينغ ستريت تحت رئاسة كاميرون، وأصبح فيما بعد صديقه وصاحب عمله في مارس/آذار 2021.
وربما تساعد حادثة “غرينسيل” في تفسير نتائج استطلاع سريع أجرته مؤسسة “يوغوف” على 2000 شخص بعد تعيين رئيس الوزراء السابق، أظهر أن 38 في المئة ممن شملهم الاستطلاع يعتقدون أن تعيين كاميرون كان سيئا، بينما اعتقد 24 في المئة فقط بصواب القرار. هذا بينما كان 57 في المئة موافقا على إقالة السيدة بريفرمان مقابل معارضة 20 في المئة فقط له.
ومع ذلك، يظل كاميرون حريصا على تأكيد أوراق اعتماده، حيث علق بعد وقت قصير من تعيينه قائلا: “رغم أنني كنت خارج الخطوط الأمامية للسياسة على مدار الأعوام السبعة الماضية، إلا أنني آمل أن تكون تجربتي- كزعيم للمحافظين لمدة أحد عشر عاما ورئيسا للوزراء لمدة ستة أعوام- مفيدة، وسيسعدني مساعدة رئيس الوزراء في مواجهة هذه التحديات الحيوية”.
أما نحن فسننتظر لنرى ما إذا كان تعيين كاميرون، اللافت للنظر، سيساعد سوناك في تحقيق أي تقدم ضد صعود حزب العمال الهائل بفارق 21 نقطة، حسب استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات البريطانية المقبلة.