سيرة الحب وصديقي
كلما أمضني الشوق أكتب لها، وكلما صديقي استمع الى أغنية سيرة الحب يكتب لها.
حل الربيع وتلونت السهول بكل الألوان، الأخضر الطاغي، والاحمر والازرق والبرتقالي، وكل تدرجات ألوان الطيف. ثمة درب ترابي يتلوى بين حقول القمح والشعير، وأنا وصديقي والحب ثالثنا نمشي على ذلك الدرب ذي التربة الحمراء. يحمل صديقي بيد كتاب الكيمياء، وبيد الاخرى راديو ترانزستور صغير، منه تصدح ام كلثوم بأغنية سيرة الحب..
أمامنا مباشرة، وعلى مسافة كيلومتر، تنهض تلال متكاتفة متراصفة، تمتد بجانب بعضها البعض. التل الأول أجرد، لونه رمادي، مرصوف بالحجارة البازلتية السوداء، وعلى قمته تتربع صخور ضخمة، اعرفها جيدا، فكثيرا ما جلست عليها. الال الثاني، سفحه موزع ما بين اللون الأخضر، حيث سهول القمح تأخذ شكل مستطيلات، تجاورها ارض مفلوحة حمراء اللون. أما التل الثالث فهو أقل ارتفاعا وخاليا من الصخور، تشغله حقول العدس والحمص.
نسمات الربيع تمر بنا، وتمنحنا مشاعر حب طازجة وعذبة. أعاند حبا قد برى جسدي، وصديقي يكابد جرحا لا يلتئم. يطلب وصالا من فاتنة، ولكنها تمعن في صدوده. وصوت أم كلثوم يواسي جروحنا:.
طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحب
وظلم الحب لكل اصحابه
وأعرف حكايات مليانة آهات
يمر سرب من عصافير الدوري أمامنا، ينخفض ويرتفع السرب على إيقاع سري نحهله، ثم يرتفع الى الاعلى ويغيب عن ناظري. تلتقي نظراتي بغيمات بيضاء، تلون سماء الزرقاء. سماء مرتفعة اكثر مما هي عادة، زرقاء ناصعة في زرقتها. يقول صديقي كلاما مبهما عن حبيبته. تلك التي رفضت وصاله، وترد أم كلثوم المستغرقة في سرد قصة سيرة الحب:.
طول عمري بقول
لا أنا قد الشوق وليالي الشوق
ولا قلبي قد عذابه.
اتنحى يمينا، وابتعد عن الدرب لأقطف نباتا بريا احب ان اكله يسمى ” رقيطًة”. نبات شوكي، عبارة عن ساق طوله اربعين سنتمر وله تفرعات صغيرة. يجتث من اسفله، ويشفًى من قشرة الساق والشوك ليصل المرء الى اللب الذي يؤكل. قطعت اثنتين وشفيتهما وعدت الى الدرب، حيث صديقي يتابع الاغنية:
وقابلتك إنت لقيتك بتغير كل حياتي
ما عرفش إزاي حبيتك
قدمت له الساق المشفى من الشوك، ولكنه رفض وقال لي بأنني لست اكثر من خروف اتى ليرعى.
كما قلت، كان يحمل كتاب الكيمياء وأنا أحمل كتاب التاريخ. ومن عادة طلاب الشهادة الاعدادية والثانوية ان يخرجوا ليقرأوا المواد النظرية في السهول المجاورة للقرية.
كنا في صف البكالوريا. انا في القسم الادبي وهو في القسم العلمي. لم يكن قصدنا القراءة وانما لنمر بجانب بيت من يحب صديقي. ربما نصادفها امام البيت فتتكحل عينا صديقي بمراها. ربما نلمح طيفها عبر نافذة بيتها المشرعة، فيطمئن قلبه. ربما نسمع صوتها وهذا اضعف ما يحلم به صديقي. ام كلثوم تتابع ولا تبالي بمشاعر صديقي:
فات من عمري سنين وسنين
شفت كثير وقليل عاشقين
اللي بيشكي حاله لحاله
واللي بيبكي على مواله
لم ننجح في قطف صورة الحبيبة، ولا في سماع صوتها. رأينا النافذة وستارة تخفق، وكلب قابع امام باب الدار. أسرعنا الخطى كي لا يرانا ويفضح سرنا، ولكنه ضبطنا، وراح يعوي بصوت مرتفع. ركضنا باتجاه السهول وصديقي يعبر عن حظة السيء. عبرنا دربا وعرا، وتجازنا منحدرات ومرتفعات صخرية. الى ان وصلنا هذا الدرب الذي يتلوى بين السهول الخضراء وام كلثوم تصدح:
ياما الحب نده على قلبي ما ردش قلبي جواب
ياما الشوق حاول يحايلني واقول له روح يا عذاب
اريد أن اعترف بأنني كنت ومازلت أحبها انا ايضا. تلك التي يحبها صديقي. أحببتها من كثرة ما ترددنا على حارتها ومشينا خلفها وامامها وتتبعنا خطاها في ساحة المدرسة. كانت هدفنا وغايتنا، ولا تحلو الدقائق والساعات إلا ونحن نقتفي اثرها. من هنا مرت الى بيت اختها المتزوجة. هناك تركت عطرها في زاوية الزقاق، الذي يمتد ويتلوى بين البيوت الطينية، كما تتلوى روح العاشق توقا للمحبوب. أحببتها ولم يكن خيارا، وانما توق غامض للروح تسعى للاكتمال..
كنا، انا وهي في صف واحد. والشتاء يفرض مزاجه البارد، وامطاره غزيرة. خرجنا من المدرسة، والمطر مدرارا، وانا وهي. أمشي خلفها ولا أصل اليها. تحمل مظلة وتمشي بشكل مستقيم. تشعر بوجودي، وتلتفت وأنا أغرق في مياه المطر. تلتفت الي وتقول:
ــ تعال … في مجال…تشتشت.
دعتني لتحت المظلة. لم أكن أقصد المظلة، ولكن قصدت ان امشي بجانبها. أما هي فلا أعلم قصدها. اسرعت اليها، مشينا متجاورين، وبقي نصفي خارج المظلة، وطاله من المطر ما يساوي مطر عام كامل. فهمت أنها لم تقصد اكثر من أن تجعلني احتمي من المطر، ولكنني قصدت وصالها. فلا احتميت من المطر، ولا حققت وصلها. قلت كلمت متلعثمة، غير مترابطة. اردت أن أقول لها إنني أحبها. فهمت رسالتي، و أخرجتني من تحت المظلة وذهبت. تركتني تحت المطر. كنت ثملا بالحب والخيبة. ذهبت الى البيت وانا اقطر مطرا ومرارة.
ياما عيون شاغلوني، شاغلوني لكن ولا شغلوني
إلا عُيونك إنت دول بس اللي خذوني، خذوني
وبحُبك أمروني
بعد ايام رأيتها مع شاب اكبر مني بثلاثة اعوام. يدرس الهندسة في الجامعة. شاب وسيم، يرتدي ثيابا انيقة، ويصفف شعره بطريقة ابناء المدن. ويرتدي الجنز الذي كان وجوده بيننا قليلا. لم يمضي على خروجه من القرية سوا ثلاثة أعوام، ولكنه يتكلم مثل أبناء المدن، بصوت منخفض ورخيم. رأيته يمسك بيدها، بينما كنت اعبر من امام بيتها، خفية من صديقي الذي يحبها. سمعت اشاب الوسيم، الذي يمسك بيد من أحب يقول لها كلاما مثل افلام السينما:
ـــ بحبك كتير …وما بقدر ابعد عنك
ـــ وانا كمان
لم اقل لصديقي عن ذلك المشوار ولا عن هذا. كتمت حبي لها، وتركته يحبها على هواه. لم ارد أن احطم حلمه الجميل. تركته يحلم بها، وأنا كذلك بقيت أحلم بها. فلا غضاضة ان نحلم كلانا بحبيبة واحدة، تحب شخصا ثالثا..
. لأنه صديقي، ووفاء للصداقة، تركته يحبها ويتغزل امامي بها، ويكتب لها القصائد، ويرسمها ويخط اسمها على جذوع الأشجار، وأنا صامت..
منذ زمن يكتب صديقي لها رسائل حب لا تصل. عادة ما يبدأ رسائله باغنية سيرة الحب:
الله يا حبيبي على حبك وهناي معاي
مابقلش بحبك غير الله .. الله يا حبيب على حبك الله الله
من كتر الحب لقتني بحب
لقيتني بحب وادوب بالحب.
منذ زمن، بل منذ أن بدأ صديقي بكتابة الرسائل لها، بدأت أكتب لها رسائل لا تصل. كلما أمضني الشوق أكتب لها. وصديقي كلما استمع الى سيرة الحب يكتب لها. .