كيف ستؤثر الحرب بين إسرائيل وحماس على العلاقات الأميركية – التركية ؟ الإجابة عن هذا السؤال، توجه الأنظار بشكل مباشر إلى مواقف الطرفين من هذه الحرب، واستراتيجية كل طرف إزاءها، والممارسة العملية في دفعها نحو مآلات سياسية محددة، بغية ترتيب وضع المنطقة من جديد.

تركيا التي أظهرت الحياد لنحو ثلاثة أسابيع بحثاً عن دور سياسي ودبلوماسي مأمول في هذه الحرب، وجدت نفسها بعد هذا الوقت مدافعة عن حماس، بل وفي تحد للإدارة الأميركية التي وصفت حركة حماس بالإرهابية، قال أردوغان إنها ليست إرهابية بل “حركة تحرر تحمي أرضها”، مهدداً بإرسال قوات تركية إلى غزة! لكن ما جعل الخيار التركي هذا صعباً إن لم نقل مستحيلاً، هو أن تركيا وجدت نفسها أمام مسارعة الولايات المتحدة إلى إرسال حاملات طائرات وسفن حربية ومعدات عسكرية للمنطقة، في إشارة إلى أن السياسة الأميركية تفكر بأبعد من غزة، كما أن تهديد أردوغان بإرسال قوات إلى غزة، وتصريحه “بأننا قد نأتي ذات ليلة على حين غرة” ليس سوى مجرد زلة لسان، فغزة ليست سوريا أو ليبيا أو أذربيجان حتى ترسل تركيا إليها قوّاتها.

على هذا النحو بدت تركيا والولايات المتحدة على طرفي نقيض من المواجهة الدموية الجارية بين إسرائيل وحماس، وقد تجلى ذلك بشكل واضح خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين إلى تركيا، حيث كان الفتور والغموض سمتها الأبرز، خاصة أنها انتهت دون مؤتمر صحفي أو بيان ختامي.

أردوغان الذي حمّل الولايات المتحدة مسؤولية هذه الحرب بسبب دعمها المفتوح لإسرائيل، ووصفه الأخيرة بمجرمة حرب، يدرك في النهاية أن بلاده عضو في حلف الأطلسي (الناتو)، وأن اقتصاد بلاده هش ويبحث عن وصفات دعم غربية وإقليمية، وينشد المساعدة الغربية لإنقاذه من الانهيار، يدرك جيداً أن رهاناته ضعيفة في هذا الاصطفاف الجاري. الرهان الوحيد لأردوغان في مواجهة السياسة الأمريكية هذه، مبنيّ على دور بلاده المنشود أميركياً في الحرب الروسية – الأوكرانية، فيما الجانب الأميركي الذي أعطى ويعطي أهمية كبيرة لهذا الدور، ينتظر بفارغ الصبر تخلّي أنقرة عن عرقلتها ضم السويد إلى عضوية الناتو حتى الآن، وبسبب هذه العرقلة يؤخر الكونغرس الأمريكي إتمام صفقة بيع أنقرة طائرات إف – 16 التي دعمها الرئيس جو بايدن.

جوهر التناقض الراهن بين الموقفين الأميركي والتركي إزاء الحرب بين إسرائيل حماس، هو أن الجانب الأميركي يريد غزة بعد هذه الحرب من دون حكم حماس، فيما الجانب التركي يرى في هذا الهدف خطر استراتيجي على تركيا نفسها، إلى درجة أن الخيال التركي يصل إلى أن هذه السياسة ليست سوى خطوة في استراتيجية الولايات المتحدة الهادفة إلى تغيير وجه المنطقة، وصولاً إلى إقامة “دولة كردية” تشمل تركيا نفسها كما تروج الصحافة التركية.

وعليه، يسابق أردوغان الزمن في ضرب الكيانية الكردية المتشكلة في المنطقة، لاسيما في سوريا والعراق، فضلاً عن الداخل التركي، باسم مكافحة الإرهاب، ويتمسك بالدفاع عن حماس كقضية إسلامية، مراهناً على دول في المنطقة، خاصةً إيران وقطر، فضلاً عن روسيا التي تجد نفسها في الموقف المضاد للموقف الأميركي من هذه الحرب، وهو ما يخلق مزيداً من الاصطفاف، في وقت باتت تركيا تجد نفسها في الموقف المضاد لعضويتها في حلف الناتو، وبالتالي فإنها تذهب مرة أخرى إلى التاريخ، متحدثة عن حملة صليبية غربية ضد الإسلام، رغم أن الخطاب التركي هذا له أهداف داخلية تتعلق بالتحشيد والتعبئة الداخلية في معركة الانتخابات المحلية المقررة في مارس/آذار المقبل، حيث يطمح أردوغان إلى استعادة السيطرة على بلديتي إسطنبول وأنقرة بعد أن خسرهما في انتخابات عام 2019 لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض.

في الجدل الأميركي – التركي بشأن حماس، ثمة تناقض واضح في مواقف الجانبين، خاصة بعد أن أصبح الموقف من حماس مثيراً للجدل داخل أوساط السلطة الحاكمة في البلدين. ثمة اعتقاد بأن موقف أردوغان من حماس، ورفضه وصفها بحركة إرهابية، وأنها حركة مقاومة وتحرر، سيكلفه كثيراً لاحقاً، خاصة إذا نجحت إسرائيل في إخراج حماس من الحكم في غزة، وهو ما سيوجّه ضربة للدبلوماسية التركية الهادفة إلى طرح نفسها كدولة ضامنة في التسويات القادمة، من خلال رهانها على علاقتها بكل من حماس وقطر، فيما الثابت أن هذا الموقف لا يتسق مع سياسة الدول الخليجية الفاعلة، لاسيما السعودية والإمارات وحتى مصر، فضلاً عن إسرائيل، حيث لهذه الدول علاقات جيدة بالولايات المتحدة، وعلى خلاف مع حماس وحكمها، ما يعني أن ترتيبات ما بعد حرب غزة قد توسع من هوة الخلاف التركي ليس مع الولايات المتحدة فحسب، بل مع هذه الدول أيضاً، خاصة أن تركيا غير قادرة على الذهاب إلى مواجهة أو صدام مع هذه الدول التي راهنت على تحسن علاقاتها معها خلال السنوات الماضية ومحاولة استعادة الدور الإقليمي لسياستها الخارجية انطلاقاً من ذلك.

من دون شك، العلاقات الأمريكية – التركية فيها الكثير من المصالح والرهانات، ومع أن كل طرف يحرص على الحفاظ عليها انطلاقاً من أجنداته الخاصة، إلا أنه من الواضح أن هذه الخلافات تتفاقم يوماً بعد آخر، وجاءت المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وحماس لتنقلها إلى منعطف شديد الحساسية لجهة التداعيات على هذه العلاقة في المرحلة المقبلة، خاصة أن القضية هنا تتعلق بإسرائيل التي تشكل أس السياسة الأمريكية والغربية تجاه منطقة الشرق الأوسط.