تشير وثائق وزرة الخارجية البريطانية في الأرشيف الوطني البريطاني إلى أن الحسن الثاني ملك المغرب الراحل الذي كان يترأس مؤتمر القمة العربية المنعقدة عام 1982 بمدينة “فاس” المغربية أجل للمرة الثانية موعد زيارة مجدولة لوفد جامعة الدول العربية إلى لندن احتجاجاً على موقف رئيسة الحكومة البريطانية مارغريت تاتشر التي رفضت مسبقاً مصافحة أعضاء منظمة التحرير . تأجيل موعد زيارة وفد الجامعة إلى لندن أثار غضب تاتشر وجعلها تبعث برسالة ثانية إلى الملك فهد الذي وضع علاقات بلاده مع بريطانيا على المحك جراء موقف لندن غير المبرر بالنسبة إلى السعوديين. في هذا السياق شرحت تاتشر في رسالتها إلى الرياض موقف حكومتها المبدئي من القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني الشرعي في تقرير مصيره.
تاتشر: مدى خيبة أملي كبير
تضمنت في الرسالة التي حملت تاريخ 8 ديسمبر (كانون الأول) 1982 مكاشفة من رئيسة الوزراء إلى الملك، أعربت فيها عن خيبة أملها بصراحة قائلة “أعتقد أنني يجب أن أخبركم بمدى خيبة أملي بعد فشل زيارة وفد جامعة الدول العربية إلى لندن الأسبوع الماضي. لقد أخبرني اللورد كارينغتون عن محادثاته مع ولي العهد الأمير عبدالله والأمير سلطان خلال زيارته الأخيرة، وأعلم مدى خيبة الأمل التي شعرت بها (أنت) أيضاً. يجب ألا يفهم بأن الموقف البريطاني مقيداً أو سلبياً. على مدى السنوات الـ15 الماضية، أسهمنا بقدر ما أسهم به أي بلد غربي تقريباً في الاعتراف الدولي بأن الشعب الفلسطيني له الحق في تقرير المصير”.
وزادت في معرض دفاعها بتوضيح أن موقف بلادها من الاتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية “يرتكز على اقتناعنا بأن قبول منظمة التحرير الفلسطينية من حيث المبدأ حق إسرائيل في الوجود بسلام وأمن، إذا كانت إسرائيل مستعدة لقبول الحقوق الفلسطينية المشروعة، وضرورة التوصل إلى تسوية عبر المفاوضات، فالوسائل السلمية خطوة ضرورية لإجراء مفاوضات واقعية في شأن مستقبل الفلسطينيين. إنها من الأهمية بمكان أن يغتنم الجانبان الفرص الحالية لإحراز تقدم نحو تسوية سلمية من خلال المفاوضات”.
وتضيف تاتشر في رسالتها “أعتقد أن هناك وجهات نظر مشتركة كثيرة بيننا حول عديد من جوانب المشكلة الفلسطينية، ويحزنني أن هذا الخلاف الحالي كان ينبغي أن ينشأ عندما كنت أتطلع بشدة إلى مناقشة هذه القضايا مع الملك الحسن والوفد المرافق له. وآمل أن يتم إيجاد طريقة تتفق مع مبادئنا وسياساتنا ومع الشعوب العربية، لكي يأتي وفد الجامعة العربية إلى لندن، ونحظى بشرف استقباله. وأود أن أؤكد لكم على أية حال أننا سنواصل القيام بدور نشط قدر الإمكان في البحث عن سلام عادل ودائم. على سبيل المثال، مارسنا الضغط بقوة على الأميركيين في شأن الحاجة الملحة لأن تنفذ إسرائيل مشروع وقف المستوطنات الذي اقترحه الرئيس ريغان. وغني عن القول إنني أعلق أهمية قصوى على الحصول على آراء جلالتكم في شأن هذه المسألة وغيرها من المسائل التي تهم بلدينا”.
بريطانيا “لن تتراجع عن دعم فلسطين قيد أنملة”
وفي رسالتها الثانية التي تحمل تاريخ 8 فبرير (شباط) 1983 تؤكد رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر مرة أخرى الاعتراف في حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وفي قبول ضرورة مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في المفاوضات من أجل تحقيق تسوية عادلة وشاملة، وأن بريطانيا لن تتراجع عن موقفها قيد أنملة، فيما فهم على أنه موقف تغازل به حليفها الغاضب الملك فهد.
وقالت “كما تعلمون يا صاحب الجلالة، اضطر العاهل المغربي الملك الحسن إلى تأجيل الزيارة التي كان من المقرر أن يقوم بها وفد جامعة الدول العربية إلى بريطانيا، والتي كان من المقرر أن يرأسها في السابع من فبراير. أعلم أن جلالتكم بذلتم قصارى جهدكم لترتيب زيارة ناجحة للوفد، وأنا ممتنة للغاية لأنكم كنتم طيبين بما فيه الكفاية واطلاعي على آرائكم. ولذلك أردت أن أخبركم أنني وزملائي نقف على استعداد للترحيب بالوفد في أقرب وقت ممكن من خلال الترتيبات الجديدة. وفي هذه الأثناء، يسعدني أننا تمكنا من تبديد بعض حالات سوء الفهم. لقد أسهمت بريطانيا بقدر ما أسهمت أية دولة غربية في الاعتراف في حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وفي قبول ضرورة مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في المفاوضات من أجل التسوية. ولم نتراجع قيد أنملة عن ذلك الموقف، وما زلنا مصممين على تقديم مساهمتنا في التقدم نحو تسوية عادلة ودائمة من خلال المفاوضات”.
كان ودوداً ثم فاجأ السفير برد فعله
على وقع تلك التطورات، تتحدث البرقية الصادرة في 14 فبراير 1983 من قبل القنصلية البريطانية لدى جدة إلى مرجعيتها في لندن عن استقبال الملك فهد للسفير البريطاني في 13 فبراير، ليسلمه رسالة رئيسة الوزراء، إلا أنه تفاجأ برد فعله الملك. وقال “على رغم أنه كان لطيفاً وودوداً طوال الوقت، كانت رد فعله غير متوقعة، فقد دعا بجدية وإسهاب إلى إبداء مزيد من المرونة من جانبنا فيما يتعلق بمسألة مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في وفد الجامعة العربية. وقال إنه إلى حين التوصل إلى اتفاق في شأن زيارة الوفد، سيكون من الأفضل تأجيل الزيارات إلى السعودية من قبل الوزراء البريطانيين وأيضاً من قبل دوق ودوقة كينت. لقد رافقني رئيس مكتبي. كان الأمراء عبدالله وسعود حاضرين أيضاً، ولم يتحدث عبدالله، واقتصر سعود على مداخلتين في جملة واحدة”.
وأضاف “بمجرد انتهاء المجاملات بدأت بالإشارة، كخلفية لرسالة رئيس الوزراء، إلى الجهود الشخصية التي أظهرها (الملك) فهد (من خلال مهمة الأمير بندر) في تطورات زيارة وفد الجامعة العربية، والحملة الصحافية، التي نشرتها بشكل خاص الصحف البريطانية والتي كانت مبالغاً فيها إلى حد كبير وتأثير هذه القضية على العلاقات البريطانية – السعودية، والحاجة الملحة لإحراز تقدم في مسألة الشرق الأوسط. أجاب الملك فهد بأن الصداقة بين بريطانيا والسعودية كانت عميقة وطويلة الأمد، والمشكلة الحالية لم تكن خارج قدرة الأصدقاء على الحل، ويجب أن نستمر في مناقشة الأمر حتى نجد حلاً”.
الملك فهد: العرب أهم للغرب من إسرائيل
ويروي السفير في صفحة أخرى من تقريره أن الملك “انتقد بأدب تكتيكاتنا في محاولتنا التعامل مع جميع أعضاء الوفد بشكل منفصل، ثم أعطاني ساعة كاملة عن السياسة الغربية تجاه العرب على خطوط مألوفة. هل لم يكن لدى الغرب رؤية استراتيجية؟ ألم ندرك أن علاقاتنا مع الـ130 مليون عربي (صاروا 430 مليوناً)، بكل الموارد المتاحة لهم، أهم من علاقاتنا مع إسرائيل؟ لقد كانت سياستنا تصب في مصلحة أولئك الذين كانوا يفضلون أن يغلق العرب أبوابهم بوجه الغرب ويلجأوا إلى الاتحاد السوفياتي للحصول على الدعم”.
وزاد “إذا لم نساعد القادة العرب اليوم حين يكونون معتدلين وعقلانيين، سنجد أنفسنا ذات يوم نتعامل مع قادة جامحين وغير مسؤولين. إسرائيل كانت موجودة. لقد تمت تسوية هذه القضية (وكرر ذلك مرات عدة بكل جدية). لقد كان العرب يطلبون ببساطة أن يمنح الفلسطينيين حقهم دولياً، حقاً قانونياً مقبولاً في الضفة الغربية وقطاع غزة. هم يريدون حقاً قانونياً مقبولاً في الضفة الغربية وقطاع غزة. هم يحاولون الحضور والتحدث إلى الأطراف الغربية ومناقشة هذه المطالبات بطريقة معقولة ومنطقية، لكنهم وجدوا أنفسهم قد رفضوا من قبل بريطانيا”.
وشرع السفير في شرح موقف الزعيم السعودي لإدارته، معتبراً أن الملك “ببساطة لم يستطع أن يفهم لماذا كان التحدث إلى ممثل منظمة التحرير الفلسطينية يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة إلى البريطانيين. وقد استقبل السيد هيرد القدومي كجزء من وفد الجامعة العربية. وكان هنا وفد عربي آخر برئاسة الملك الحسن المعتدل تماماً، يمثل العالم العربي كله، ويحمل الرسالة السلمية والبناءة لقمة فاس، وكأنما يرفض التحدث إليهم. هل كنا نحاول أن نقول للعرب إنهم لن ينالوا حقوقهم إلا بالقوة”؟
ومضى في نقل تساؤلات الملك السعودي، مضيفاً “هل كنا قلقين من أن يعد استقبال ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية بمثابة اعتراف رسمي بمنظمة التحرير الفلسطينية؟ استقبلت فرنسا الوفد، لكنها لم تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية. لقد سمحنا بوجود مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في لندن، أليس كذلك؟ قلت إنه كان هناك ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في مكتب الجامعة العربية بلندن، وهو أمر مختلف إلى حد ما. لقد تم تجاهل هذا جانباً. في الوقت الحالي لقد تم عرض أفضل مبادرة على الإطلاق لحل مسألة الشرق الأوسط، وكانت بريطانيا تؤخر التقدم. كانت المملكة العربية السعودية تحب وتحترم المملكة المتحدة، وأرادت أن تؤمن بالصداقة البريطانية، لكن الصداقة يجب أن يكون لها تطبيق على أرض الواقع”.
اللجوء إلى أخي الملك فهد المقرب
ونجد رسالة سرية أخرى تعلق فيها الحكومة البريطانية الآمال على زيارة الأمير سلمان بن عبدالعزيز (الملك الآن) إلى لندن، لعله يساعد في الخروج من الموقف الذي وضعت لندن نفسها فيه.
ومع أن الأمير سلمان الذي كان يومها أمير الرياض لم يخطط للقاء أي مسؤول بريطاني، وكانت زيارته شخصية، إلا أن كونه أحد المقربين للملك فهد وبين أبرز الشخصيات الرئيسة في رسم السياسة الخارجية للسعودية، لجأت الحكومة البريطانية إلى وساطته لحل الأزمة.
وجاء في الوثيقة ما نصه “اتصلت السفارة السعودية هذا الصباح لطلب الحماية للأمير سلمان بن عبدالعزيز، الذي يقولون إنه سيكون في لندن في زيارة خاصة لمدة 10 أيام إلى أسبوعين اعتباراً من 26 يناير (كانون الثاني). أرفق التقرير الخاص بالأمير سلمان، فهو الرجل الرابع أو الخامس في التسلسل الهرمي السعودي، وهو شخصية رئيسة في صنع السياسة الخارجية السعودية، وربما الأقرب من جميع الأمراء إلى الملك، وهو موجود هنا في زيارة خاصة، ولم يطلب حتى الآن أي لقاء مع أعضاء حكومة صاحبة الجلالة، ومع ذلك، فإنه اعتماداً على كيفية سير الاجتماعات مع الأمير بندر والأحداث في الرباط، قد نتمكن من استخدام وجوده هنا لصالحنا بطريقة ما. ناقشنا إمكانية أن يقوم السيد هيرد بزيارته. ويمكن تقديم ذلك للسعوديين في المقام الأول على سبيل المجاملة، لكنه سيوفر فرصة لتوصيل وجهات نظرنا إلى القيادة السعودية على مستوى أعلى”.
بعد أشهر من المفاوضات، تم التغلب على الأزمة من خلال اختيار الأكاديمي الفلسطيني وليد الخالدي لتمثيل الشعب الفلسطيني ضمن وفد جامعة الدول العربية، وهو يومئذٍ عضو بارز في المجلس الوطني الفلسطيني (برلمان المنفى)، لكنه ليس مسؤولاً في منظمة التحرير الفلسطينية.
قاد العاهل الأردني الملك حسين في 18 مارس (آذار) 1983 وفد جامعة الدول العربية الذي استقبلته رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر بحفاوة. وهكذا انتهى نزاع أنغلو – عربي طالت سجالاته، حول رفض تاتشر مقابلة مسؤولين من منظمة التحرير الفلسطينية. وضم الوفد أيضاً وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل ووزراء خارجية أو نواباً من المغرب وسوريا والجزائر وتونس، ووجد استقبالاً حاراً من الحكومة البريطانية.