لأتباعه الذين تميّزوا بالشجاعة والإستعداد للتضحية، أنشأ حسن الصبّاح ما أطلق عليه «حديقة الجنة». كان الدخول إليها محروسا بفدائييه، ومن معبر ضيّق يقع في أسفل قلعة آلموت، حيث أقام شيخ الجبل (وهذا أحد ألقاب الصبّاح) خمسين سنة، أي ما يقرب من نصف سني حياته الطويلة. كان قد أقام تلك الحديقة مستوحيا، بل متّبعا، الوصف الديني لها، لكنه أضاف من عنده مغريات تتفق مع عقيدته. من ذلك مثلا إرفاده أنهار اللبن والعسل بأنهار نبيذ كان يحلّل شربه لرجاله الأشدّاء. أما النساء فهنّ من أجمل ما جاء بهن ذلك الزمن، «كنّ يُجدن الرقص والعزف على كل الآلات الموسيقية وقادرات على توفير كل أنواع المتع والسرور للشباب هناك».
متقدّما عن التيارات المتطرّفة التي جاءت من بعد، اهتدى الصبّاح إلى صناعة جنّة قائمة، لا الوعد بالجنة كما بشّر زعماء التيارات الدينية المسلّحة من بعده، بل العيش فيها. وهذا العيش المؤقت، حسبما أقنع الصبّاح رجالَه، سيتأبدّ لكل من يموت مقتولا. وهؤلاء كانوا، في العصر الوسيط ذاك، يسرعون إلى التضحية بأنفسهم، فيرمي واحدهم بنفسه من سطح القلعة إلى الأسفل محوّلا نفسه إلى حطام.
وكان الصبّاح يجري ذاك أحيانا كتمرين على الطاعة، يعرضه أمام الراغبين في قتاله، أو في محالفته فيقول لأحد حرّاسه: اقفز الآن، فيقفز الحارس من فوره، غير آبه بإقباله على الموت المؤكّد.
كما أن الصبّاح، في تدريبه لجماعته، كان يحرص على تلقين أفراده الإيمان بعقيدته إلى حدّ الانتحار، قبل نحو ألف سنة من زمن استشراء الموجات الانتحارية التي عرفناها. أحد أركان عقيدته كان الاغتيال طعنا بالخناجر، وهو لذلك أرغم وجهاء أعدائه من السلاجقة إلى ارتداء دروع الحديد، كما على حماية أنفسهم بالإكثار من المسلحين. وهؤلاء، المعرّضون للاغتيال كانوا يتلقّون الطعن ممن يظنونهم أقرب الناس إليهم حيث، حسب تدريبهم في ما يشبه أن يكون أكاديمية مبكرّة لإعداد الانتحاريين، كانوا يعيشون مع ضحيّتهم، حراسا أو خدما أو سائسين، أو حتى مستشارين، فترات قد تتعدى الأشهر الستّة أو السبعة أشهر، احترازا من أي خطأ في تنفيذ القتل، علما أنهم حسب مؤلفة الكتاب التركية عائشة أتيجي أرايانجان، كان هؤلاء يلقون حتوفهم فور تنفيذ الاغتيال، فيسقط واحدهم إلى جانب ضحيّته.
حسن الصبّاح كان قائدا ومعلّما وفقيها ورجلا شجاعا، وكان مؤمنا إلى حدّ أنه كان يَسجن أو يعاقب النافخ في المزمار لظنه أن هذا مخالف للدين لكنه، في الوقت نفسه، أباح لجنده سماع أصوات موسيقية دائمة لدى إقامتهم في «حديقة الجنة». كان أيضا، بحسب مؤرّخين كثر، قد عمّم على من يختارهم ليكونوا فدائييه، تناول الأفيون إلى حدّ الغيبة عن الوعي (ولهذا سُميت جماعته من الإسماعيليين النزاريين بالحشّاشين). حسب هؤلاء المؤرّخين، كان عيش الجنة ذاك مرفقا بالشعور بأثر المخدّر، حتى إذا انتهت فترة الإقامة في الجنة، يستفيق المتدرّب من التجربتين معا: ما بقي في رأسه من طيّباتها، وما أبقاه المخدّر في رأسه من خيالات.
في كتاب المؤرخة التركية يتبدّى حسن الصباح شخصية نصفها حقيقي ونصفها من صنع الأساطير. وفيما نحن نقرأ الكتاب لا يخالطنا شك في صدق الأدوار السياسية التي أداها، وهي كثيرة وحاسمة حولت الإسماعيليين إلى قوة مواجهة للسلاجقة والفاطميين، بل إن فدائيّيه تصدّوا للصليبيين وحاربوهم كما خاضوا معارك ضد قوات المغول الغازية. ومن ناحية أخرى، وهي الأسطورية أو المخترعة، أمكن للصبّاح أن يتحوّل إلى شخصية أسطورية ألهمت الساعين في الاحتفال بالغرائب إلى حد صناعة أفلام سينمائية مستلّة مما ورد في سيرته. كان المستشرقون أكثر متابعي سيرته نهما، إذ لم يكد الرحالة ماركو بولو يشير إلى حديقة الجنة وقلعة آلموت، وإلى شخصية حسن الصبّاح وأفيونه، حتى اعتبر ذلك من عجائب الشرق وغرائبه. وشأن كل عجيب راح الكتّاب من بعده يغالون في إطلاق مخيّلاتهم. ولم يكن ماركو بولو قد رأي شيئا من ذلك بأم عينيه. لم ير حديقة الجنة ولم تكن قلعة آلموت قائمة عندما مرّ بجانب أطلالها. ما نقله ليس إلا معلومات وهمية سمعها من السكّان المحلّيين، وكان هو نفسه، المؤرّخ الرحالة قد أضاف مبالغات من عنده، وذلك على سبيل الاحتفال بما سمعه.
في الكتاب فصل لا تزيد عدد صفحاته عن الثلاث صفحات، يروي الحكاية الشائعة عن صحبة حسن الصبّاح مع نظام الملك وعمر الخيام. لم يزد ذلك الفصل شيئا عن المتداول القليل حول اتفاق الرجال الثلاثة على أن يرفع مَن بلغ مناصب عالية رفيقيه معه. بعد أن بلغ نظام الملك مرتبة الوزارة في الدولة السلجوقية، ارتضى عمر الخيام منه بالقليل، راغبا هكذا بالعيش على هواه. أما بين الآخرين فتحوّلت المودّة إلى عداوة قضى فيها نظام الملك مقتولا بأيدي من أرسلهم الصبّاح. وهذه أسطورة أيضا اتسع مداها عما بلغته حديقة الجنة، إذ اتفق مؤرّخون على أن الرجال الثلاثة لم يكونوا زملاء ولا رفقاء، ما دام أنهم في أعمار غير متقاربة.
كتاب المؤرخة التركية جميل وممتع، ليس فقط لغرابة ما ينقله من أحداث ووقائع وتواريخ وأوهام، لكن أيضا لطريقته في تقسيم عناوين الكتاب إلى فصول صغيرة مثيرة للفضول. كما أن الكاتبة لم تتردّد في إعادة نشر فقرات طويلة من كتابات مؤرّخين سابقين تتسم بالسرد المشوّق والغريب.
*»الحشّاشون- الأساطير والحقائق» كتاب التركية عائشة أتيجي أرانجيان نقله إلى العربية أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، صدر عن «دار النهضة العربية» ببيروت في 135 صفحة ومؤرَّخ بالسنة 2025.
٭ كاتب لبناني