كان غارثيا ماركيز وماريو يوسا وكارلوس فوينتس وخوليو كورتاثر، ومن قبلهم بورخس، يملؤون العالم بكتاباتهم في ستينيات القرن الماضي، بورخس في تيار الفانتازية الميتافيزيقية، حيث العالم مجرد وغرائبي، وحيث كل الأحداث يمكن أن تتحول إلى صور سوريالية، وماركيز مع كُتّاب الواقعية السحرية يروجون للثقافة الشعبية ومعتقداتها وخرافاتها، ليخرجوا بأدب جديد لم تعرفه الرواية من قبل، حين كان أنطونيو سكارميتا، المولود في تشيلي عام 1940، لأبوين مهاجرين من يوغسلافيا، يخطو خطواته الأولى نحو الأدب، بسؤال حول ما يمكن كتابته بعد ما كتبه العظام السابقون. لو أن أسلافك هم بورخس وكورتاثار وماركيز، باختلاف تصوراتهم الفنية وطرحهم الجمال، لا بد من أن تجد أمامك عثرات يصعب تخطيها، بالخصوص لأن هؤلاء لا يزالون شبابًا وينتجون ويملؤون سمع العالم وبصره. لكن الكاتب الذي درس الفلسفة، وأعد رسالة دكتوراه مبكرة عن الفيلسوف الإسباني المؤثر أورتيغا إي جاسيت، تبعتها رسالة أخرى عن أعمال خوليو كورتاثار، كان يعرف الإجابة. صحيح أن سكارميتا ابن قارة ساحرة، وابن بلد ساحر، لكنه كذلك متعدد الثقافات، شديد الغرام بالأدب الأميركي الحديث، بالخصوص جاك كيرواك. هذا الغرام الذي تلاقى مع ميوله ومنظوره للفن، ساهم في إنتاج أعمال أدبية فريدة، جمعت ما بين التجريبية والمتعة، السؤال الكبير والتفاصيل الصغيرة، فشغل بذلك مكانًا في تاريخ الأدب الأميركي اللاتيني لا يقل عن مكان أسلافه.
مبكرًا جدًا، في بداية عشريناته، قرر سكارميتا السفر إلى الولايات المتحدة، وحصل على منحة فولبرايت التي سمحت له أولًا بمعايشة الثقافة الأميركية وأدبها عن قرب، وثانيًا إعداد رسالة عن خوليو كورتاثار، كشفت، من ضمن ما كشفت، عن مدى تقديره لهذا الكاتب الأرجنتيني، بل وربما حدّدت مساره الأدبي. في هذه الرحلة التي استمرت لعامين، اكتشف سكارميتا كذلك شغفه بالسينما والمسرح، الذي درسه، وكتب هناك مخطوطاته الأولى التي غدت في ما بعد أعمالًا قصصية وروائية.
في عام 1967، ينشر سكارميتا مجموعة قصصية بعنوان “الحماس” بالتوازي مع نشاطه الثقافي والسياسي، عبر برامج تلفزيونية وكتابات صحافية. منذ لحظته الأولى كانت انحيازاته السياسية واضحة، وتحرك في تشيلي والعالم باعتباره مثقفًا عضويًا في خدمة الثقافة والمجتمع. وحدد لنفسه أن الكاتب بقدر ما يبدع في أعماله الأدبية عليه دور يجب أن يؤديه لمجتمعه. ما دفعه لتأييد الرئيس اليساري سلفادور الليندي في حملته الانتخابية، ثم فرض على نفسه المنفى الاختياري في الأرجنتين عند انقلاب بينوتشيه عام 1973 على الليندي.

“في عام 1967، ينشر سكارميتا مجموعة قصصية بعنوان “الحماس” بالتوازي مع نشاطه الثقافي والسياسي، عبر برامج تلفزيونية وكتابات صحافية”

في الأرجنتين واصل سكارميتا إنتاجه الأدبي، فصدرت له بعد “الحماس” و”عارٍ على السطح” مجموعة “طلقة حرة”، وكانت مجموعة حاسمة بالنسبة للنقاد، إذ تجلى فيها أكثر من غيرها أسلوبه الأدبي الفريد.
بعد عامين في بلد بورخس وكورتاثر، توجهت بوصلة سكارميتا نحو ألمانيا، ومن هناك واصل نشاطه السياسي بالانضمام لمجموعة مثقفين تشيليين كشفوا فضائح نظام بينوتشيه الديكتاتوري، وواصل نشاطه الأدبي بنشر رواياته “حلمت أن الثلج يتأجج”، “لم يحدث شيء”، “الثورة”، و”صبر متأجج” التي حققت نجاحًا لافتًا، وترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، وتحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان “ساعي بريد نيرودا”، ومسلسل إذاعي ومسرحية، وعمل أوبرالي.
15 عامًا قضاها سكارميتا في المنفى، ليعود عام 1989 بعد نهاية حكم بينوتشيه، ليؤسس برنامجًا ثقافيًا بالتعاون مع معهد غوته بتشيلي بهدف تأسيس ورشة أدبية تتيح للشباب التشيلي التعرف على طرق الكتابة المختلفة وفتح نافذة للثقافة العالمية، بعد 16 عامًا من الانغلاق الناتج عن ديكتاتورية بينوتشيه واحتقاره للثقافة. وتعتبر عودته مرحلة أخرى في كتابته، نشر خلالها “عرس الشاعر”، “فتاة الترومبولين”، “رقصة النصر”، و”أب سينمائي”، وفي عام 2011 نشر روايته الأخيرة “أيام قوس قزح”.
بدايةً من عام 2015، أصيب سكارميتا بسرطان المعدة، وانعزل تمامًا عن الحياة.

سكارميتا كمسرحي

مع القصة القصيرة والرواية، كتب المؤلف التشيلي خمس مسرحيات: “البحث” (1976)، “لم يحدث شيء” (1977)، “اللطخة” (1978)، “اللحن” (1979)، ما يعني أنه في بداية هجرته لألمانيا رأى أن المسرح هو المعبّر عنه أكثر من أي فني آخر. وبعد توقف، عاد في عام 2010 بمسرحية “عيار 18”. ثمة مسرحية وحيدة كتبها ولم تُعرض: “استفتاء” (1988)، وهي مونولوج مسرحي تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان “لا”، أخرجه بابلو لاراين ورُشِح للأوسكار في عام 2012. لم تكن هذه المسرحية مقاربته الوحيدة لفكرة الديكتاتورية. اللافت أنه بعد هذه المسرحية، صوّت التشيليون بـ “لا” ضد بينوتشيه، لتنتهي بذلك ديكتاتورية استمرت 15 عامًا.
وبدافع من الالتزام، كتب سكارميتا أدب الطفل، بتصور أن أطفال اليوم هم فنانو الغد، ومن حقهم أن نفتح خيالهم.
وبعد مسيرة تجاوزت نصف قرن، ودّع أنطونيو سكارميتا الحياة يوم الثلاثاء الماضي، 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، ليفقد العالم واحدًا من الأصوات الأدبية الهامة، وأحد الضمائر التي لم تكف عن قول “لا”، ولتظلّ أعماله نموذجًا للجمال والالتزام السياسي في آن واحد.