يرى بعض الباحثين العراقيين أن التهمة ملتبسة قانونياً ولا تستند إلى معايير من اختصاص المحكمة الاتحادية العليا (أ ف ب)

لعله رئيس البرلملن العراقي  الأقوى بين الذين تسلموا إدارة السلطة التشريعية خلال 20 عاماً خلت، منذ التغيير الذي حدث بعد عام 2003، فمحمد راكان الحلبوسي  المنحدر من عشيرة صغيرة نسبياً لقبائل الدليم في الأنبار تمكن بطريقة استثنائية من قيادة مجلس النواب لدورتين انتخابيتين متتاليتين بجدارة ومؤهلات “استثنائية” أيضاً ليحقق وضعاً مغايراً لما تعيشه محافظة الانبار  الأكبر مساحة في البلاد والأكثر تضرراً بعد سقوط نظام صدام حسين، والتي سقطت مرة ثانية منتصف 2014 بيد تنظيم “داعش” وشهدت خراباً وتقتيلاً غير مسبوق في تاريخها، مع شقيقاتها ما يسمى المحافظات السنية الأربع الموصل وتكريت وديالي وكركوك (المتنازع عليها

حزب الأمة

غير أن الحلبوسي حين تولى رئاسة البرلمان ذهب بعيداً في توصيف حزبه “تقدم” بأنه والمكون الذي يمثله بـ”نحن أمة”، مما أثار عليه خصومه الساسة السنة قبل الشيعة، ممن يرون في حضوره وتوجهاته وآماله أن يكبر على حساب منافسيه الذين لن يستسيغوا توجهاته وسياسته، ويتهمونه علناً بأنه كوّن ثروة شخصية مليارية، ويطالبون بتحرك عشائري ونيابي ودعوات قضائية منذ أكثر من عام، سبق أبعاده بالتحقيق بتلك الثروة، وتفسير مظاهر الترف التي تستفز خصومه من أبناء الأنبار تحديداً ومطالباتهم عبر البرلمان والأحزاب بتطبيق قانون “من أين لك هذا؟”، ومقارنة ما يمتلكه حالياً مع كشف الذمة المالية التي قدمها قبيل حلف اليمين كرئيس للبرلمان.

هذه التهمة لا تتعلق بالحلبوسي وحده، بل بعدد من المتصديين للمناصب العامة في العراق، المتهمين بالفساد وجمع الثروات من المال العام وتحويله إلى مال خاص، وهم يتباهون بمظاهر الثراء السريع التي تطغى على حياتهم وأسرهم والقصور العامرة في العراق وخارجه، قبالة شعب جائع ويعاني كثيراً من الأزمات التي يعزوها ملايين المتظاهرين إلى الفساد الذي يضرب المجتمع السياسي من دون علاج ناجع، وكانت نتيجته “الدولة الفاشلة” بحسب توصيف منظمات الشفافية وقناعة ملايين العراقيين.

هذه البيئة السياسية المحتدمة وجدت رمزاً متمثلاً في رئيس السلطة التشريعية القوي لإطاحته بتوجيه تهمة “التزوير” بأوراق نائب من زملائه هو ليث الدليمي، وهو من بيئته السنية، ومن خلال المحكمة الاتحادية العليا المؤلفة من تسعة قضاة، صوت خمسة منهم لمصلحة تجريد رئيس السلطة التشريعية من عضوية البرلمان وإقصاء خصمه ليث الدليمي (الشاكي والمشتكى منه) معاً، ومطالبة البرلمان بتعيين آخر.

خارج مهمات المحكمة الدستورية

يرى بعض الباحثين العراقيين أن التهمة ملتبسة قانونياً ولا تستند إلى معايير من اختصاص المحكمة الاتحادية العليا، ومن بينهم النائب صلاح العرباوي الذي أكد أنه “إذا كانت التهمة التزوير فليس من مهمات المحكمة الاتحادية العليا الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس مجلس النواب، وتنحصر صلاحيتها بالاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء”.

ويقول إن “جريمة التزوير بمحرر رسمي يحكمها قانون العقوبات 111 لسنة 1969، إذ تنص المادة 288 منه على أن المحرر الرسمي هو الذي يثبت فيه موظف أو مكلف خدمة عامة، ما تم على يديه أو تلقاه من ذوي الشأن طبقاً لأوضاع قانونية وفي حدود سلطته واختصاصه، أو تدخل في تحريره على أية صورة أو تدخل في إعطائه الصفة الرسمية، والعقوبة المقررة لها قررتها المادة 289 (السجن مدة لا تزيد على 15 سنة)”.

ويضيف العرباوي أنه إذا كانت التهمة التطبيع، فالمحكمة الاتحادية غير متخصصة أيضاً على رغم أن قانون التطبيع رقم 1 لسنة 2022 في (المادة التاسعة منه) يشمل الرئاسات والمستويات الأخرى في السلطات كافة، ويقرر عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد لمن تثبت عليه تهمة التطبيع، لذا “يبدو أن المحكمة استندت إلى المادة 52 من الدستور (الطعن في قرار صحة العضوية) والمادة (9/2) من قانونها رقم 25 لسنة 2021 النافذ”.

في وقت يرى الباحث فراس محسن أن المحكمة الاتحادية بنت قرارها على أساس افتراضي بوقوع جريمة التزوير، لكن من دون وجود قرار قضائي باتّ يثبت وقوع الجريمة وإيقاع العقوبة القانونية بصددها وخضوع قرار الإدانة للاستئناف والتمييز لاستكمال قرار الإدانة للدرجة القطعية، معتبراً أنه باختصار ربما تكون هناك دوافع سياسية وراء هذا القرار.

الحلبوسي يهاجم المحكمة الاتحادية

الحلبوسي لم يكن خصماً سهلاً، فلجأ إلى الرأي العام بعدما التقى رئيس السلطة التنفيذية محمد شياع السوداني ليؤكد أن قرار المحكمة العليا بما وصفه “مخالفاً للقانون شاهراً نص الدستور العراقي النافد الذي يؤكد الفصل بين السلطات وفق المادة 49 من الدستور”، وكذلك اتهم المحكمة بأنها لم تلتزم واجبها الرئيس وهو الفصل في النزاعات بين السلطات عند الاحتكام إليها، مؤكداً أنه لا يصح للمحكمة الاتحادية النظر في عضوية نائب في البرلمان، إلا بما ورد في المادة 52 من الدستور التي وحدها تتيح للمحكمة العليا النظر في عضوية النائب، بعد قرار من قبل مجلس النواب بغالبية الثلثين للحفاظ على السلطة التشريعية، وهي المعنية حصراً بصحة عضوية أعضائها، في وقت حددت المادة 2 من المادة أعلاه بعد صدور قرار المجلس بموالفة ثلثي الأعضاء والطعن بالقرار من قبل المتضرر من خلال المحكمة الاتحادية بعد المجلس، وهذا لم يتحقق في قرار المحكمة الاتحادية، وفق دفاع الحلبوسي.

من أجل التدجين

لكن المتخصص في الشأن العراقي الباحث يحيي الكبيسي يرى أن إثارة قضية الحلبوسي بعد عام على شكوى النائب ليث الدليمي ناجم عن أن “هناك رضا على الحلبوسي من الإطار الشيعي، لذا تمت التغطية على ’موبقاته‘، أما الآن فإن هناك محاولة لتهديده ولا أقول إزاحته من أجل مزيد من التدجين لتستخدم هذه الورقة كما ستستخدم أوراق أخرى”.

 

ويقول “لا تعويل هنا على هذه التوصيفات بأنها توصيفات تعكس موقفاً أخلاقياً ضد الحلبوسي أو انتهاكاته لأنها مرتبطة بصراع سياسي، وأؤكد هنا أن كل نواب ’تقدم‘ برئاسة محمد الحلبوسي وقعوا استقالات قبل الانتخابات، وهم لم يوقعوا على استقالاتهم المسبقة ولم يفرض عليهم ذلك، بل توسلوا ليوقعوا من أجل أن يحصلوا على استثمارات من صندوق الإعمار الذي يمتلكه، بمعنى كل نواب تقدم حصلوا على أموال ومشاريع من الدولة من صندوق الإعمار أو من محافظة الأنبار التي يهيمن عليها الحلبوسي لكي يعاد انتخابه”.

ويضيف أننا “كنا أمام نوع من ’الزبائنية‘، فهناك زبون هو النائب أو من يريد أن يكون نائباً، وهناك عراب هو الحلبوسي، وهذه العلاقة هي التي حكمت تلك التوقيعات بالاستقالة المسبقة، وليس الضغط أو الإكراه، وقد استخدم هذه الورقة العام الماضي مع النائب ليث الدليمي واستمرت ليومين، وانتهت بالمصالحة، لكنها استخدمت سياسياً من أجل تدجينه أكثر والضغط عليه”.

الشيعة يتبرأون من دم الحلبوسي

ويرى الباحث حيدر الموسوي أن “اتهام القوى الشيعية بأنها تقف خلف إقالة رئيس البرلمان جاء بدعم غالبية الحرس القديم من جانب القوى السنية الذين قاموا بحراك كبير منذ أكثر من عام وهم يحاولون بالطرق القانونية شتى لإقالة الحلبوسي من موقعه”.

ويقول “بيد أنني على المستوى الشخصي جلست مع قيادات شيعية عدة ما بعد تشكيل حكومة السوداني وسألت لماذا تتم إزاحة الكاظمي وبرهم ويبقى الحلبوسي؟ والجواب كان أن منصب الكاظمي هو منصب الاستحقاق الشيعي لذا القوى الشيعية هي تبتّه، أما منصب رئاسة الجمهورية فهو استحقاق الكرد وتغيير برهم صالح كان عبر آلية التصويت داخل البرلمان والدليل أن حتى الإطار وقتها انقسم بين من صوّت لبرهم ومن صوت للرئيس الحالي، أما بخصوص منصب المكون السني فهم من يقررون أي كتلهم الفائزة في الانتخابات من سيصبح رئيساً للبرلمان، والدليل أن بعض القيادات السنية كان لديها عتب على القوى الشيعية بالسماح بالولاية الثانية للبرلمان”.

ويضيف أن “المحاولات الآن هي تحويل الأمر إلى جنبة ذات بعد مذهبي، وهذا لن ينجح لسبب بسيط أن ترحيب غالبية القوى السنية واحترامها لقرار المحكمة الاتحادية سيقطع الطريق في ظل وجود البديل الذي ستتفق عليه القوى السنية كبديل للحلبوسي، والأمور ستمضي في نهاية المطاف ولن تتوقف عبر إقالة شخص ما مهما كان المنصب والبديل دوماً موجود، والناس ستتعامل مع الوضع الجديد بطبيعة الحال ولن توقف حالها من أجل شخص ما، لذا فإن القوى السياسية السنية مجتمعة هي من أطاحت الحلبوسي ولا علاقة للقوى الشيعية بذلك”.

الآثار المترتبة على الإقالة

قد يثار التساؤل أيضاً عن مصير حزب “تقدم” والوزراء والنواب التابعين له، أي ما هو أثر قرار المحكمة الاتحادية العليا على هؤلاء؟،

 وتجيب الباحثة القانونية راقية الخزعلي أن “قرار المحكمة الاتحادية العليا ينص على فقد عضوية رئيس مجلس النواب العراقي فقط، بذلك لا يتأثر حزب ’تقدم‘ بهذا القرار ما دام أنه تشكل بطريقة قانونية سليمة، إلا إذا صدر حكم باتّ يجرم رئيسه عن جريمة التزوير أو أية جريمة ينص عليها القانون، مثل تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني رقم (1) لسنة 2022، لأنه في مثل هذه الحال يكون قد فقد شرطاً من شروط تأسيس الحزب الذي أشارت إليه المادة (9)/(ثالثاً) من قانون الأحزاب السياسية رقم 36 أنه على من يؤسس حزباً أن يكون غير محكوم عليه بحكم بات من محكمة متخصصة عن جريمة القتل العمد أو جريمة مخلة بالشرف أو جرائم الإرهاب أو الفساد المالي أو الاداري أو الجرائم الدولية.

سلوك شائن ومتكرر

لكن أستاذ العلوم السياسية المتخصص في التاريخ السياسي العراقي الحديث مؤيد الونداوي يضع الأمور في سياق آخر، قائلاً إنه “لا بد من التنويه إلى أن صناعة الأصنام في العراق مستمرة تاريخياً، فإن العراقيين مهرة في صناعة الأصنام، فلو تأخذ لقطة سريعة لعدد من الزعماء الذين تعاقبوا على السلطة وترى سلوكهم وتحركاتهم وحماياتهم ومصوريهم والآليات التي تسير خلفهم من النوع المرتفع الثمن وأرتالهم والأشخاص الذين يهرولون خلفهم، فلذلك حين يأتون لأي مكان من دون سبب تلقى أناساً تمجد، لكن هؤلاء ماذا قدموا للمجتمع؟ أجيبك، لا شيء منذ 2003 حتى الآن، فهناك حقيقة واحدة أنهم يستخدمون كل شيء من أجل مصالحهم ومنافعهم على حساب حاجات المجتمع وتطوره وتراجعه المستمر، لا أرى جدوى من تغيير الوجوه الحالية، فهناك أزمة في البنية السياسية في عموم المجتمع السياسي وهذه نماذج من سلوكات الأزمة.

إمكان التراجع

هل تتراجع المحكمة العليا عن قرارها الذي اتخذته بنزع عضوية رئيس البرلمان؟

 يجيب أستاذ العلوم السياسية في جامعة الموصل الباحث علي بشار أغوان الذي قدم وصفاً تاريخياً لقضية إلغاء عضوية محمد الحلبوسي مؤكداً أن “قرارات المحكمة الاتحادية نهائية وملزمة ولا تقبل الطعن أو الاعتراض أو الاستئناف وإلزامية وفورية التنفيذ، لذا فإن تأثيرها يتجاوز مجرد القضية المعروضة أمام المحكمة، فهي ليست مجرد قرارات قضائية ولكنها تمثل إرادة الدستور نفسه”.