الوطن ليس مجرد جغرافيا معينة ذات حدود وعَلَم وذكريات بل هو دولة المدنية الديمقراطية التي تنكب دائما وأبدا على صياغة وتعديل القوانين الوضعية الرامية إلى الإتيان بأعلى درجات العدالة والحرية
الرحيل بحثاً عن وطن جديد
أكثر ما يبعث على الدهشة المصاحبة مع الأسى والألم هو أن يصبح الرحيل عن الوطن حلما يدغدغ مخيلة الملايين، ولاسيما شريحة الشباب، وأن يصبح الوصول إلى الوطن الجديد إنجازا لا يضاهيه إنجاز. وهذا ما يتجلى واضحا من خلال مواسم وموجات الهجرة من الأوطان وإلى الأوطان التي تعصف بالبلدان التي اكتوت بمآلات الربيع الإسلامي والخريف الليبرالي العربي منذ 2011 وإلى الآن.
ولا يتشكل إحساس الاشمئزاز من الوطن والتوق إلى هجرانه إلا بعد أن يقهر الظلم العدل والجوع الشبع والمعاناة المسرة والحرمان الاكتفاء والتمييز المساواة والفساد النزاهة.. إلى أن يصبح للوطن قاموس خاص لا يحتوي بين دفتيه سوى الكلمات والمصطلحات سيئة الصيت المستقاة من البيئة الفعلية والحاضنة العملية. ويتحول الوطن عمليا إلى موئل للوحوش التي تنهش أجساد الفرائس المقهورين الذين نال منهم القنوط واستسلموا لمصائرهم وأقدارهم الغارقة في الشؤم والمجبولة من السواد.
أوطان تُفرغ وتُخلى من ساكنيها وأخرى تمتلئ وتفيض. أوطان تضيق ذرعا بقاطنيها فتتحول مقبرة للبعض الأول وفخاً للبعض الثاني ومحزنة للبعض الثالث ومنعمة للبعض الرابع. وما بين هذا وذاك هناك البعض الخامس الذي يلوذ بالفرار حازماً أمتعته التي لطالما كانت متأهبة للرحيل بحثاً عن وطن جديد عله يعيد الروح قليلا إلى آدميته المشوهة ويصون ما تبقى من كرامته المهدورة.
◙ الأوطان المنكوبة عجزت عن إنتاج نخب قيادية وسياسية وكاريزمية وطنية جامعة تهدف إلى أنسنة الدولة والوطن وبالتالي إلى تعلق الإنسان بوطنه وحبه له
أوطان تُبدع في إذلال ساكنيها وإرغامهم على الرحيل، وأوطان أخرى تتألق في رعاية رعاياها وتفتح صدرها وذراعيها للوافدين الهاربين من أوطان الجحيم. أوطان تتوحش وتتمادى في التوحش مع ساكنيها وأخرى تأنس وتتوهج في الأنسنة مع سكانها ومع القادمين الفارين من جحيم أوطانهم. أوطان تتسابق في الوداعة والرعاية والاستقطاب وأخرى في الخشونة والترهيب والتنكيل والتهجير والترحيل.
أوطان تأسست على مبدأ العقد الاجتماعي وتجاوزت بقرون مدلولات ومآلات هذا العقد وتعيش عمليا مراحل ما بعده، وأخرى مازالت تلفظ العقد الاجتماعي وتعاديه وتحاربه قولا وفعلا، ولهذا لم تتأسس ولم تتبلور بعد ومازالت في مرحلة المخاض الذي فاق كل التوقعات من حيث الإطالة والعبثية والتبديد والدوران في الحلقة المفرغة. ولا تلوح في الأفق أي بوادر تشي بقرب نهاية هذا المخاض العبثي الطويل المتفجر ألما ودمعا ودما.
تُفرغ الأوطان من ساكنيها عندما تفشل في الأنسنة وتمتهن التوحش وتتأبد وتخلد فيه. والأنسنة لا تُنجز إلا بالقانون الوضعي الذي يرمي إلى إشاعة العدالة وتوفير الحرية وحماية الكرامة. هذا القانون الذي لا يتوقف عن التجديد والتعديل والتطوير بهدف أنسنة الدولة والمجتمع. لكن القانون المفعم إنسانية والهادف إلى تحقيق العدالة وصون حريات الأفراد لا يُصاغ ولا يطبق إلا بالوعي والمعرفة والإرادة التي تتطلب العقل النير والمتنور، ولا يتبلور إلا بعد تراكمات تاريخية هائلة تؤدي تلقائيا إلى ولادة حاجة جمعية إلى القانون. تاريخيا، ظهرت القوانين الإنسانية الوضعية لامتصاص توحش الإنسان من خلال الروادع والترويض على الأنسنة.
الوطن ليس مجرد جغرافيا معينة ذات حدود وعَلَم وذكريات، بمعنى أن الوطن لا يتحقق بالمساحة والشعارات والهتافات، وإنما بالدولة المدنية الديمقراطية التي تنكب دائما وأبدا على صياغة وتعديل وتغيير القوانين الوضعية الرامية إلى الإتيان بأعلى درجات العدالة والحرية والكرامة وتأطير الشراكة بين المواطنين. وهنا يمكن اعتبار الوطن كالجسد والدولة كالروح. فإذا كانت الروح (الدولة) طيبة ونقية سيتحول الجسد (الوطن) إلى جنة. وإذا كانت الروح (الدولة) شريرة وفاسدة، عندها يتحول الجسد (الوطن) إلى جهنم لا يطاق ولا ينتج سوى العذابات والمآسي، وسيتحول حب الرعية للوطن إلى مقت والعلاقة إلى نفور وسيكون الهروب من الوطن والبحث عن وطن جديد هو المسعى والمبتغى. يقول الشاعر معروف الرصافي:
إذا كان في الأوطانِ الناس غايةٌ
فحريِّة الأفكار غايتها الكبرى
◙ تُفرغ الأوطان من ساكنيها عندما تفشل في الأنسنة وتمتهن التوحش وتتأبد وتخلد فيه. والأنسنة لا تُنجز إلا بالقانون الوضعي الذي يرمي إلى إشاعة العدالة وتوفير الحرية وحماية الكرامة
إذا لم يعش حراً بموطنهِ الفتى
فسمِّ الفتى ميتاً وموطنهُ قبراً
والشراكة الحقيقية بين المواطنين لا تتحقق إلا عن طريق الدولة المدنية الديمقراطية الخيرة، والأخيرة لا تستطيع تحقيق هذا الهدف إلا عن طريق القوانين الوضعية المصبوغة من العدالة والحرية، أما إذا كانت الدولة أو من ينوب عنها بمثابة العصابة التي تهدف إلى طمس وطمر واغتيال العدالة والحرية في كل لحظة ونهب وسلب خيرات الشعب عندها يتحول الوطن إلى مارد مرعب يدفع الإنسان إلى كره وطنه والنفور منه والابتعاد عنه. فالدولة الصالحة تحبب الإنسان في وطنه والدولة الطالحة تدفع الإنسان إلى كره وطنه أو على الأقل النأي عنه. فعندما يخير الإنسان بين الغربة والاغتراب، عندها سيختار الغربة لأن أوجاعها أقل وطأة من أوجاع الاغتراب في الوطن.
لكن الحقيقة الأكثر مرارة والمدعمة بالأدلة والقرائن هي عجز هذه الأوطان المنكوبة عن إنتاج نخب قيادية وسياسية وكاريزمية وطنية جامعة تهدف إلى أنسنة الدولة والوطن وبالتالي إلى تعلق الإنسان بوطنه وحبه له. على العكس من ذلك، فكل ما تصبو إليه هذه النخب الحاكمة هو مضاعفة توحش الوطن والدولة وزيادة نفور الإنسان من وطنه والنتيجة زيادة التطفيش. وهذا بدوره، يسلط الضوء من جديد على طبيعة تربة هذه الأوطان التي لا تنبت فيها سوى البذور التي تنتج القيم الوضيعة وتموت فيها القيم القيّمة، على الأقل على المستوى القيادي والسياسي والنخبوي الرسمي.
سابقا كان يقال إن الرحيل عن الوطن يعني الذهاب إلى المجهول، أما الآن فقد أصبح الوطن هو المجهول وتحولت الغربة إلى المعلوم. أوطان تشبه كل شيء إلا الأوطان، أوطان لا ينقصنا فيها شيء إلا كل شيء.
كل التفاعلات:

Bave Cudi وشيرزاد حاجي