في تصريح مفاجئ، نقلت شبكة ABC يوم الأحد عن ترامب قوله: “قد أخسر الانتخابات، وكل شيء وارد، لكن أعتقد أنني متقدّم بنسبة كبيرة”. وتوقّعَ ترامب أن يُعلن مساء الثلاثاء عن الفائز بانتخابات الرئاسة، بلا تأخير. هذه واحدة من المفاجآت الأميركية، وهي في موسم انتخابي شديد السخونة. فترامب واظب كما هو معلوم على إنكار خسارته أمام بايدن في الانتخابات الماضية، ودأب مؤخراً على القول أنه إما أن يفوز على كامالا هاريس، أو يخسر بسبب عمليات تزوير ليس إلا.
لكن، كما هو معلوم أيضاً، يصعب الركون إلى أقوال ترامب هذه، ومن الأسهل توقّع أن يبادر إلى الطعن بنتيجة الانتخابات إذا خسر، وأن يرفع عشرات الدعاوى لاسترجاع حقه المزعوم في الفوز. في الواقع، لا يتخوّف أميركيون، من بينهم جمهوريون، من سيناريو الخسارة ودعاوى الطعن في النتيجة. الخوف هو من المفاجآت التي في جعبة ترامب وأنصاره، أو مما قد يرتجله لحظة الخسارة متسبِّباً بأعمال عنف واسعة، وبانقسامات أميركية غير مسبوقة حول النظام الديموقراطي نفسه.
من هذه الجهة على الأقل، ليس في جعبة هاريس مفاجآت. فمن المؤكد أنها ستتقبّل الخسارة في حال حدوثها، وستكون أمينة لخطابها الذي يركّز على أهمية القانون والديموقراطية، على الضد من منافسها ترامب المُدان والمتهم في عشرات القضايا المرفوعة ضده، والذي يُخشى انقلابه على الديموقراطية. أي أن هاريس مكتفية بكونها هي نفسها المفاجأة التي دفع بها الحزب الديموقراطي إلى المنافسة، بعدما أُجبر بايدن على الانسحاب من السباق. ومفاجأة هاريس مركَّبة لكونها امرأة، وملوَّنة. وهكذا يكون حزبها قد رفع منسوب التحدّي إذا تذكّرنا خسارة هيلاري كلينتون أمام ترامب في انتخابات 2016. حينها كانت المفاجأة حقيقية وكبرى، إذ أعطت استطلاعات الرأي كلينتون هامشاً كافياً للفوز، وفازت بالتصويت الشعبي بزيادة ثلاثة ملايين صوت، لكنها خسرت في أصوات المجمّع الانتخابي بفارق كبير زاد عن سبعين صوتاً.
في الانتخابات الراهنة، قد تلقى هاريس مصير كلينتون، فاستطلاعات الرأي صارت أشدّ تمرّساً واحتياطاً عمّا كانت عليه قبل ثماني سنوات، وهي أعطت لهاريس أفضلية بسيطة في الاقتراع الشعبي، وأفضلية بسيطة في أصوات المجمّع الانتخابي قدرها 225 صوتاً محسوماً نظرياً مقابل 219 لترامب، لتنصبّ المنافسة على 94 صوتاً هو مجموع أصوات ما يسمّى الولايات المتأرجحة. وقد تتغير الأرقام قليلاً، إذا أصاب استطلاعٌ متأخر للرأي أعطى ولاية آيوا بأصواتها الخمسة لهاريس، مع العلم أن ترامب فاز فيها في المرتين السابقتين.
خسارة ترامب الأصوات الخمسة لآيوا، إذا حدثت، تنتقص من جدوى تركيزه في الأسابيع الأخيرة على ولاية بنسلفانيا التي لها 19 صوتاً، هي الأعلى ضمن أصوات المجمّع الانتخابي بين الولايات السبع المتأرجحة. على ذلك، يبقى الأمل المتاح له هو الحصول على 56 صوتاً من الأصوات الـ94 المتنافَس عليها، أما الأمل الأكبر فهو تكرار سيناريو 2016 بالحصول على عدد أكبر مما يلزم من أصوات المجمّع.
يستند ترامب في “تفاؤله” هذا إلى أن حظوظه تتفوق لدى الذين يصوّتون بناء على دوافع متعلّقة بالاقتصاد، والهاجس الاقتصادي قد يُعطى الأولوية في اللحظات الأخيرة. ولا تخفى مراهنته على تشجّع الذكور، البيض منهم على نحو خاص، على الاقتراع كي لا تتسلم امرأة المنصب الأول في الولايات المتحدة. مكمن المراهنة أن نسبة كبيرة من ناخبي القوة الأعظم في العالم غير جاهزة بعد لتقبّل رئاسة امرأة، بينما اجتاز العديد من الدول الأوروبية الامتحان نفسه بنجاح، وكذلك فعلت باكراً دول في آسيا.
فوق الانقسام التقليدي بين ديموقراطيين وجمهوريين، والانقسام المختلف قليلاً بين ترامبيين وغير ترامبيين، يمكن القول أن ترشّح هاريس يستثير انقساماً موجوداً بين تقليديين وغير تقليديين في النظر إلى النساء. نتيجة الانتخابات، حتى إذا أتت لصالح هاريس، لن تكون دلالتها مطلقة رغم أنها بالتأكيد ستعطي مؤشِّراً إيجابياً لصالح تجاوز الأميركيين ككل هذه العتبة، وقد تشجّع تجربة تولّي امرأة الرئاسة على تكرارها لاحقاً، أو الاعتياد عليها على الأقل. ما سيحدد ذلك هي نسب المشاركة في الاقتراع، وإذا صوّتت نسبة كبيرة من الملوَّنين والنساء فسيكون اقتراعهم لصالح هاريس. أي أن قسماً كبيراً من رهان هاريس متصل بتشجيع مؤيديها على الاقتراع، وهو ما أنفقت في سبيله أموالاً طائلة، بينما يبدو ترامب مرتاحاً لحماسة أنصاره؛ الحماسة التي اختبرها منذ خسارته الانتخابات الماضية واقتحام ثلة منهم مبنى الكابيتول، وصولاً إلى ترشّحه الحالي.
يجوز القول أن الانتخابات الحالية هي الأكثر انكشافاً في تاريخ الولايات المتحدة، فاتجاهات الرأي العام معلومة سلفاً بمعظمها، وكذلك توزّعها بين الناخبين. استطلاعات الرأي المتتالية تقلِّل إلى حد كبير من هامش الخطأ، وكانت طوال الشهور الماضية بمثابة دليل للمرشّحَيْن كي يتلافى كلٌّ منهما تقصيره على مستوى الخطاب الانتخابي عموماً، وعلى مستوى الولايات الحاسمة إجرائياً. هي ربما، لهذا السبب أيضاً، الانتخابات الأكثر غرابة لأن المرشّحَيْن أنفقا الوقت والأموال لاستقطاب ناخبي ولايات قليلة متنافَس عليها، بينما لم تحظَ الولايات المحسومة لأيٍّ من الحزبين باهتمامهما، رغم أن لها ما يزيد عن 80% من أصوات المجمّع الانتخابي.
نظرياً، سواءً فاز ترامب اليوم، أو فازت هاريس، لن تكون ثمة مفاجأة في الخبر. استطلاعات الرأي الأخيرة أشارت إلى نسب متقاربة جداً لهما في الولايات السبع، والمفاجأة الوحيدة التي تبدو ممكنة هي أن ينال أحدهما نسبة ساحقة من أصواتها، على غرار ما حصل في عام 2016. مغزى المفاجأة في هذه الحالة ليس الفوز وحده، وإنّما دلالته لجهة نيل صاحبه تفويضاً أقوى مما لو فاز بما هو قريب من عتبة الـ270 صوتاً المطلوبة من أصوات المجمّع.
ترامب كعادته بقي مصراً، حتى الساعات الأخيرة قبل بدء الاقتراع، على أنه يتقدّم بفارق كبير على هاريس في الولايات الحاسمة، ذلك بخلاف ما تقوله استطلاعات الرأي عن تقاربهما، ومنها استطلاع أجرته “نيويورك تايمز” يوم الأحد الفائت يُظهر تقدّماً طفيفاً لهاريس في أربع ولايات متأرجحة تكفيها للفوز، إذا تُرجمت التوقعات في صناديق الاقتراع. الطريف أن العالم كأنّه يصدّق ترامب، وذلك ضمن ميل لعدم تصديق استطلاعات الرأي، وضمن قناعة بأن موعد انتخاب امرأة للرئاسة لم يحنْ بعد، وأيضاً بموجب القناعة الشائعة بأن اليمين الشعبوي الذي يمثّله ترامب لم يستنفذ فرصته في الحكم بعد. الطريف وفق هذه المعطيات أن المفاجأة هي فعلياً في فوز هاريس، مع أن استطلاعات الرأي تتوقع لها هذا!