ملخص
قد تتحسن الأمور في المنطقة وقد لا تتحسن. وفي كل الأحوال المستقبل ليس مكتوباً في أي كتاب أو في النجوم فهو مشروط، ونتيجة لما يفعله أهل الشرق الأوسط وفي مقدمتهم إسرائيل التي لو وافقت من قبل على مبادرة السعودية عام 2002، لكان الشرق الأوسط الجديد والسعيد وجد طريقه عبر دولة فلسطينية مستقلة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للجولان.
من بين أهم المصطلحات التي ذاعت خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي الجمهوري جورج بوش الابن، تحديداً عام 2004، جاء تعبير “الشرق الأوسط الكبير”، أو “الشرق الأوسط الجديد” الذي كان جزءاً من “استراتيجية الحرية المتقدمة”، تلك التي وقفت وراءها خصوصاً وزيرة خارجيته الشهيرة كونداليزا رايس، صاحبة المصطلح المكمل والمتمم المعروف بـ”الفوضى الخلاقة”.
اليوم وبعد نحو عقدين من الزمن، يتساءل القاصي والداني، عرباً وعجماً، عن مآلات الشرق الأوسط الكبير؟ وهل وجد طريقه للتحقق من قبل، لا سيما أن فوضى رايس أثمرت خراباً واسع النطاق بعد ثورات الشتاء الأصولي تلك التي عرفت باسم “الربيع العربي”؟ فما الذي هدفت إليه مبادرة الشرق الأوسط الكبير وقتها؟.
باختصار غير مخلّ، يمكن القطع بأنها نشأت كردّ فعل عاطفي مندفع سريع على أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) من عام 2001، ورأى واضعوها أنه لا بد من استنقاذ المنطقة من التحديات الكبرى القائمة والمقبلة على أراضيها، لا سيما لجهة تغيير العقول التي أفرزت إرهابيين، وخُيّل لأصحابها أنه من اليسير للغاية بلورة رؤية ديمقراطية فوقية، إن جاز التعبير، تغير الأوضاع وتبدل الطباع، في تلك الرقعة الجغرافية من العالم عبر أدوات طنانة ورنانة من أحاديث نشر الحريات وتعزيز الديمقراطيات والوصول إلى مراكز الحكم عبر صناديق الاقتراع.
كان من الطبيعي أن تخفق هذه الاستراتيجية لسبب بسيط، وهو أنها نشأت غريبة عن وقائع الحياة وطبائع الأمور في دول الشرق الأوسط، كما أن الذين قاموا عليها كانوا منبتي الصلة بأحوال الناس هناك، تاريخهم الحضاري ومساراتهم الحياتية، وفي أفضل الأحوال، ربما كانوا منظرين مؤدلجين ليس أكثر، ومن هنا لازم الفشل ذلك الطرح.
ولاحقاً هبت عواصف “الربيع العربي” لتقضي على ما بقي من آمال وأحلام “العم السام” لبلورة هذه الاستراتيجية في حقائق ووقائع على الأرض.
ما الذي ذكرنا بهذا الطرح الذي تجاوزه الزمن بـ20 سنة؟.
ربما لأن هناك من يرى أن تطورات المشهد في المنطقة الشرق أوسطية، سيقود لاحقاً إلى تشكيل شرق أوسط جديد، حتى لو لم يكُن بمواصفات الثنائي “بوش – رايس” السابقة، بخاصة في ظل الحرب الواسعة المنفلتة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
هل هناك فرصة حقيقية على الأرض لقيام شرق أوسط جديد بالفعل، أم أنه حلم ليل طاف بمخيلة صناعه، ثم ما لبثت أوهامه أن تبخرت عند شروق شمس العقد الثالث من القرن الـ21؟.
قبل الجواب المباشر، ربما يتحتم علينا التوقف قليلاً والإشارة إلى تاريخ الفكرة، ومن منطلقات الماضي ووقائع الحاضر يمكننا الحديث عن مستقبلها.
الشرق الأوسط حلم يلوح في الأفق
قبل أن يصل بوش الابن إلى البيت الأبيض بنحو عقدين، تحديداً عام 1982، تصور وزير الدفاع الإسرائيلي أرئيل شارون نظاماً جديداً في الشرق الأوسط، حيث ينعم لبنان بالحرية تحت حكم حكومة مارونية موالية للغرب، وتنشأ دولة فلسطينية في الأردن، كما اعتقد ذلك المحارب العتيد بأن الغزو الإسرائيلي للبنان من شأنه أن يدمر منظمة التحرير الفلسطينية ويضمن أمن إسرائيل.
وعلى رغم أن الأمر لم يمضِ على النحو الذي فكر فيه شارون وقتها، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الأطراف الإسرائيلية من التفكير فيه وبقوة لاحقاً.
في أعقاب اتفاق أوسلو عام 1993، وعد شيمون بيريز وتوماس فرديمان، عراف العولمة الأشهر من الـ”نيويورك تايمز”، بإنشاء “شرق أوسط جديد”، وبدلاً من القتال سيطلق الشباب الفلسطينيون والإسرائيليون شركات ناشئة آلية التقنية وستحطم سيارة “ليكسوس” شجرة الزيتون وتبشر بـ”نهاية التاريخ”.
اعتبرت الولايات المتحدة بقيادة بوش الابن أن إزالة نظام صدام حسين ستؤدي إلى ازدهار شجرة الحرية ونشوء وارتقاء المسيرة الديمقراطية المؤيدة للنموذج الأميركي خصوصاً، ومن هنا مارس سيد البيت الأبيض تمارينه الخاصة بتغيير الأنظمة وإسقاط الرؤساء، غير أن ذلك لم يفلح في تغيير وجه الشرق الأوسط ولم ينجم عنه سوى بعض التشوهات في العلاقات الأميركية- الشرق أوسطية تحديداً.
لم يتوانَ حكام البيت الأبيض عن محاولة تشكيل شرق أوسط طائع منصاع لأحلامهم أو أوهامهم، وربما بما يتسق مع رؤاهم الاستراتيجية المخملية، فقد تبع حقبة بوش الابن زمن “الربيع العربي” المغشوش في أوائل العقد الثاني من القرن الحالي الذي توهم أيضاً رعاته أنه سيطلق موجة من الثورات الليبرالية الديمقراطية شرق أوسطياً بريادة وقيادة شباب من مجتمع “فيسبوك” المجتمعين في ميدان التحرير في العاصمة المصرية القاهرة.
لكن النتيجة من تونس إلى مصر، ومن ليبيا إلى سوريا، ومن العراق إلى اليمن جاءت كارثية، لا سيما أن الشيء الوحيد الذي وجد فرصة للصعود والترقي، كان الحركات الإسلاموية السياسية التي عرفت كيف تصل إلى الديمقراطية عبر سلم عالٍ، ثم حاولت إزاحته بعيداً لتبقى لها السيطرة وتنفيذ أجنداتها الظلامية، وهكذا مرة جديدة أخفقت التعبيرات الهلامية في تغيير واقع المنطقة.
هل يحمل الرئيس الجمهوري العائد إلى البيت الأبيض خطة لإنقاذ مشروع الشرق الأوسط الجديد؟ (غيتي)
هل الخطأ في الحلم أم الآليات؟
يعنّ لنا أن نتساءل مخلصين ونبحث عن الجواب، “هل هناك خطأ في فكرة حلم الشرق الأوسط الجديد أم الكبير؟.
الشاهد أن الحلم في حد ذاته أمر جيد، لا سيما إذا صاحبته قدرات حقيقية تسعى إلى طريق تغيير الواقع نحو الأفضل، وهناك أدلة وتطبيقات عملية وتاريخية عدة على هذا السعي المحبوب والمرغوب، وليس آخرها الاتحاد الأوروبي، ذاك الذي عرفت دوله حربين عالميتين أنهكتا أصحابه، وأسفرتا عن ملايين القتلى ومع ذلك انتصرت إرادة الحياة لاحقاً، وعرف الأوروبيون نموذجاً للتعايش السلمي والدفع في طريق النمو والاستقرار.
غير أن الشرق الأوسط وحلمه المتعثر نجم عن أخذ زعماء سياسيين غير عرب ولا شرق أوسطيين في أصلهم وفصلهم، أوهامهم مأخذ الجد، وفي كثير من الأحيان استخدموا الأطروحة لحشد الدعم لسياساتهم المكلفة وبات الشرق الأوسط لاحقاً جحيماً مفروشاً بالنوايا الحسنة.
من هنا، يمكن معرفة لماذا أحلام شارون الخيالية أدت إلى حرب طويلة وكارثية في لبنان والتي انتهت بجرّ إسرائيل إلى مستنقع، وتالياً اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل، ثم طرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، ومن ثم جاءت الانتفاضة الفلسطينية عام 1987.
وعلى رغم أن “اتفاقية أوسلو” عام 1993 أشعلت توقعات السلام وتغيير وجه الشرق الأوسط، إلا أنها فشلت لاحقاً، وحتى “العم سام” في شخص الرئيس الأميركي بيل كلينتون أخفق بدوره في كامب ديفيد عام 1999، في التوصل إلى صيغة جديدة تعيد كتابة انتصارات جيمي كارتر عام 1979، والمثير لاحقاً أن شارون الحالم بشرق أوسط مغاير، كان هو من تزعم الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.
أما حرب العراق، فقد أثبتت أنها كارثة استراتيجية ذات أبعاد تاريخية، في حين تحول التدخل العسكري في أفغانستان إلى أطول حرب خاضتها أميركا.
سيناريوهات مقلقة لليوم التالي للانتخابات الأميركية
الولايات المتحدة تستعد لنشر قدرات عسكرية جديدة في الشرق الأوسط
إيران وإسرائيل تنقلان الشرق الأوسط إلى سباق التسلح
تحول في ميزان قوى الاقتصاد العالمي في انتظار الفائز بالانتخابات الأميركية
أدت الحروب إلى انهيار توازن القوى في الشرق الأوسط، مما سمح لإيران بالظهور في نهاية المطاف كقوة تسعى إلى الهيمنة الإقليمية عبر مجموعات من الوكلاء الشيعة في اليمن كالحوثيين وفي العراق كجماعات “الحشد الشعبي” وفي سوريا من الموالين لها وطفا “حزب الله” بقوة في الساحة اللبنانية وترعرعت “حماس” في قطاع غزة.
ويبدو أن مقولة رئيس الوزراء البريطاني العتيد ونستون تشرتشل كانت قد تحققت فعلاً، بأن الولايات المتحدة ستفعل الصواب لاحقاً، لكن بعد أن تجرب 100 طريقة خاطئة، ومن تلك الطرق الكارثية المساعدة في إطاحة نظام العقيد القذافي في ليبيا ونظام بشار الأسد في سوريا وعلي عبدالله صالح في اليمن، مما أوجد الفرصة السانحة لتنظيمات راديكالية من نوعية “داعش” لتجرب حظها في إقامة دولتها الحدودية بين العراق وسوريا، وتجمع من حولها عشرات آلاف المقاتلين الشباب.
هنا يعنّ لنا التساؤل، “هل كانت المشاريع الغربية للشرق الأوسط، لا سيما تلك التي قادتها واشنطن في ولايتي بوش الابن من جهة، وباراك اوباما من أخرى، دافعاً مؤكداً إلى بلورة ما عرفه أحد أفضل العقول الأميركية بـ”محور الدول الفاشلة” التي معها يضحى من الرفاهية التصديق بأن هناك بالفعل إمكاناً للوصول إلى فكرة شرق أوسط جديد ومغاير، بل تقدمي وقابل للحياة؟.
كوردسمان ونقد المشروع الشعاراتي
من بين أفضل العقول الأميركية التي عملت في الشأن العام خلال العقود الأربعة الأخيرة يأتي اسم أنتوني كوردسمان الذي شغل منصب أستاذ كرسي أرليه بورك في الشؤون الاستراتيجية بمركز الدراسات الاستراتيجية الدولية CSIS”” الشهير في نيويورك.
قبل رحيله منذ أربع أعوام ببضعة أشهر، كتب عبر موقع مجلة “بوليتيكو” الأميركية الشهيرة، متسائلاً عن أحوال الشرق الأوسط الكبير من زمن “الربيع العربي” إلى أوان ما اسمه “محور الدول الفاشلة”.
هل وجه كوردسمان لطمة قاسية للسياسات الأميركية تحديداً، وما تسببت فيه من أخطاء كارثية قادت المنطقة إلى مثل هذه المآلات المتردية؟.
يعترف الرجل بالقول إن واشنطن قطعت شوطاً كبيراً منذ الآمال المرتبطة بـ”معاهدة كامب ديفيد” والعولمة ونهاية التاريخ ونهاية حرب الخليج الأولى عام 1991، وصولاً إلى ما عرف بزمن “الربيع العربي”.
غير أن هذه المسيرة الطويلة التي تناهز أربعة عقود، كانت سيراً في كل الاتجاهات الخاطئة لأنها نشأت من منظور غير واقعي، فتدهور الشرق الأوسط بمرور الوقت وبطرق تتجاوز إلى حد كبير صراعاته وأيديولوجيته ومعتقداته المتنافسة وصراعات السلطة بين الحكام والمحكومين.
يرى كوردسمان أن واشنطن توقفت طويلاً عند الشعارات البراقة كالحرية والمعرفة وتمكين المرأة، وهي في واقع الحال قيم مهمة وأخلاقيات سامية، لكنها ومع أسف شديد، لم يكُن لها أن تجد طريقها إلى النجاح وسط أهم ما يحدد مسيرة الشعوب، أي المؤشرات الاقتصادية ومستوى حياة الأمم والشعوب.
يبيّن لنا كوردسمان أن النتاج الإجمالي المجمع لـ22 دولة عربية عضو في جامعة الدول العربية أقل من الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا، وكيف أن 40 في المئة من العرب البالغ عددهم 65 مليون شخص أميون وثلثاهم من النساء.
متظاهرون يحملون لافتة كتب عليها أسماء الأشخاص الذين قتلوا في غزة خلال موكب كل الأرواح لعام 2024 في أريزونا (أ ف ب)
عطفاً على ذلك، فإن ثلث سكان المنطقة يعيش على أقل من دولارين في اليوم، ولتحسين مستويات المعيشة، يتعين على النمو الاقتصادي أن يتضاعف من أقل من ثلاثة إلى ستة في المئة على الأقل.
بحلول عام 2020، دخل 100 مليون شاب عربي سوق العمل للمرة الأولى، مما يفترض خلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة كل عام لاستقبال هولاء الوافدين الجدد.
أما المشكلة الأكبر، فتتمثل في أن 1.6 فقط من السكان لديهم القدرة على الوصول إلى الإنترنت، وهو رقم أقل من أي منطقة أخرى من العالم، بما في ذلك أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
هنا يضع كوردسمان الإدارات الأميركية المتعاقبة أمام علامة استفهام، “هل أسهمت الطروحات والشروحات الأميركية، وعلى رأسها مبادرة الشرق الأوسط الكبير في تحسين أحوال العالم العربي ودول الشرق الأوسط بصورة عملية فاعلة ترفع من مستويات المعيشة، أم أن الهدف كان دعائياً غرضه الرئيس هو إقحام إسرائيل بالقوة الجبرية في سياقات الحياة الطبيعية، عبر السعي إلى علاقات قسرية إن جاز الوصف، ومن غير أدنى محاولات فعلية لتغيير حياة البشر هناك إلى الأفضل؟.
حرب غزة الشرق الأوسط الكبير
ولعل ما أعاد إلى الأذهان ومن جديد حديث الشرق الأوسط الكبير، ما جرى في غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023، حين قامت حركة “حماس” المسلحة بإغارة عسكرية على المنطقة المعروفة بغلاف غزة حيث المستوطنات الإسرائيلية.
هل وجهت هذه العملية تحديداً ضربة قاصمة لفكرة الشرق الأوسط الكبير؟.
يقطع الزميل الباحث في “جامعة بورك” في المملكة المتحدة سانسوم ميلتون بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وكما سلفه شيمون بيريز، كان يحلم بشرق أوسط جديد، لكن من الواضح أن الأمور لم تمضِ كما رتبت لها الأجواء. ما الذي جرى؟.
في سبتمبر (أيلول) 2023، وخلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة وقف نتنياهو من فوق المنصة، حاملاً خريطة تظهر الشرق الأوسط الجديد كما يحلم به، وقدم رؤية للتحول الإقليمي ترتكز على “اتفاقات أبراهام” التي تعمل من خلالها الدول العربية المجاورة على العلاقات مع إسرائيل.
لكن بدلاً من تحقيق نظام إقليمي جديد من خلال الدبلوماسية والتجارة، شهد العام الماضي حملة إسرائيلية عسكرية شرسة ومدمرة من الحرب والإبادة الجماعية.
أدى الهجوم الإسرائيلي المستمر من عام على جبهات متعددة إلى تحطيم التقدم المبني الذي أحرزته المنطقة نحو السلام. لقد تعرض الاستقرار النسبي في الشرق الأوسط بداية هذا العقد للدمار بسبب الهجوم الإبادي الإسرائيلي على غزة والقصف الجوي لسوريا واليمن والآن الغزو البري للبنان.
عام 2003، تصور أصحاب الأيديولوجيا المحافظون الجدد العراق باعتباره منارة ديمقراطية من شأنها أن تنشر التغيير في مختلف أنحاء الشرق الأوسط الجديد.
غير أنه بعد مرور عقدين من الزمن، يحدث هذا التحول على أيدي دولة استطيانية متطرفة عرقية، والحديث لميلتون دوماً، من خلال الإبادة الجماعية والغزو والطرد الجماعي.
والشاهد أن إسرائيل وسعت حدود ما هو ممكن ومسموح به في الصراعات المسلحة الإقليمية، من خلال الانتهاكات الروتينية للقانون الإنساني الدولي واختبار مدى إمكان دفع الدول العربية من دون تصعيد كبير.
تبدو الحرب على غزة ولبنان، وما يستتبعهما من تطورات على الأرض أسباباً كافية لتحولات جوهرية في العقول والقلوب تجاه فكرة شرق أوسط جديد، يتضمن دولة إسرائيل ضمن سياقاته الحياتية الطبيعية، وعلى النحو الذي تحدثت عنه مبادرة السلام السعودية التي طرحت في أعمال القمة العربية في بيروت عام 2022، وقد كانت أهم فرصة ضائعة لإعادة تشكيل شرق أوسط جديد حقيقي وليس دعائياً.
موقع غارة إسرائيلية في بلدة برجا اللبنانية (أ ف ب)
خلال عام حرب غزة، طفت على السطح بقوة ومن جديد، حال تراجع الثقة لدى الشارع العربي بمقدرات القيادات السياسية الغربية، إذ إن الازدواجية في المعايير أضحت هي السائدة.
بل إلى أكثر من ذلك، يمكن القول إن العرب لم يعودوا يثقوا بعواصم تتعاطى مع طهران بطريقة، ومع بقية العواصم العربية بطريقة أخرى.
لقد جاءت العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة التي هاجمت فيها أهدافاً في طهران، لتؤكد أن واشنطن رسمت حدوداً لا ينبغي الخروج عنها، حتى لا تدخل المنطقة في حرب إقليمية، مما يضر بمصالح واشنطن في هذا التوقيت المثير والحساس.
ومع تراجع الثقة بالقيادة الغربية، أصبحت المنطقة تتطلع بصورة متزايدة إلى دول كبرى ذات وزن قطبي مغاير لتقوم بدور مهم في حاضرها ومستقبلها وللتوسط في الاتفاقات السياسية وكشريك في التقدم التكنولوجي وجهود إعادة البناء.
هنا ربما تنبغي الإشارة إلى أنه وفي الخريطة المعدلة التي أعدها نتنياهو للشرق الأوسط، غابت فلسطين المحتلة بصورة ملحوظة، وأثبت العام الماضي حماقة هذه الرؤية المشوهة.
وأعادت الحرب على غزة تشكيل المنطقة بالفعل، ولكنها عززت الشعور بالاتحاد بين “الشارع العربي” في معارضة الاحتلال الإسرائيلي والتطهير العرقي، مما وضع أميركا وروسيا والصين تحديداً في مواجهة أدوار جديدة في المنطقة، ربما تتفاعل يوماً قريباً لتسهم في تخليق شرق أوسط مغاير عن مبادرة أميركا لعام 2004.
عن الشرق الأوسط الكبير 2025
قبل الولوج إلى عمق التوازنات الدولية ومستقبل علاقات المنطقة، دولاً وشعوباً، والآمال المتراجعة في شرق أوسط كبير جديد، على مقياس شارون وبيريز، ومن بعدهم بوش الابن ونتنياهو، هناك من يعمل بنصيحة الرئيس الفرنسي الأشهر شارل ديغول، أي الحديث عن السياسة الدولية من خلال الخريطة الجغرافية. ماذا نعني بذلك؟.
نعني أن هناك من يحاول بلورة منظور أوسع للفكرة، فلا تقتصر على دول المنطقة فحسب، بل تمتد لتشمل العالم العربي وتركيا وإيران وآسيا الوسطى والقوقاز.
هل تخلو هذه النظرة من براغماتية ما لا توفرها الحكومات والدول الغربية منذ زمان وزمانين؟.
بالقطع إن واشنطن ولندن وباريس وبروكسيل، تنظر إلى هذا القطاع الجغرافي الممتد كموقع لأكبر مصدر للوقود الأحفوري في العالم، وهو المكان الذي تسعى فيه قوى طموحة عدة بنشاط إلى فرض هيمنتها الإقليمية. كما أنها المنطقة التي تمتلك فيها الولايات المتحدة حلفاء رئيسيين فضلاً عن مصالح مهمة.
هل يعني ذلك أن النظرة الغربية المحدثة للشرق الأوسط الكبير لا تختلف في واقع الحال كثيراً عن نظيرتها منذ منتصف القرن الماضي؟.
الثابت قطعاً أنه منذ ذلك الوقت، هناك أمران يمثلان خطوط السياسات الغربية، أوروبياً بحكم الحضور التاريخي وأميركياً، ويتمثلان في تأمين منابع النفط، إذ كان ولا يزال سائل الحضارة الأول والأهم، ومن غيره تتوقف عجلة الحياة الغربية بصورة كبيرة، والثاني تأمين حضور ومستقبل دولة إسرائيل، لا سيما في عقودها الأولى.
لم يتغير الكثير منذ ثمانية عقود تقريباً، بل تعزز الهدفان بحكم التطور التاريخي وبصورة مدهشة، فقد زادت الحاجة إلى النفط العربي والشرق أوسطي، وتعالت أهميته مع دخول منافس بدرجة الوحش الذي يلتهم كل تلك الكميات الهائلة المصدرة من دول المنطقة، ونعني بالوحش الصين المقبلة بقوة في سماوات القطبية الدولية.
أما الثاني، فيتمثل في حماية دولة إسرائيل، لا سيما في ظل أمرين، الأول هو المد الأصولي والمتطرف الذي لا ينفك يعتبر فلسطين قضيته المحورية، والأخير يتولد من رحمه ويمكن أن تخرج جماعات مسلحة تقض مضاجع الإسرائيليين في الداخل، وتقلق نهارهم على الحدود في الخارج، بخاصة في ظل عالم الذكاء الاصطناعي، ذاك الذي يجعل من الأسلحة التقليدية عديمة الفائدة إلا في الإبادة الوحشية.
من هنا يبدو جلياً أن الشرق الأوسط لا يزال مهماً للغرب، لكن أهلية الذين فقدوا ثقتهم بالأرباب الغربية باتوا اليوم قريبين جداً من مرحلة زمنية مغايرة، يفتحون فيها الآفاق أمام قوى قطبية عتيدة مثل روسيا، وهذه تمتلك من الأسلحة الحديثة ما لا يقل عما هو موجود لدى ترسانة “العم سام”، والصين ذات الأبعاد الصناعية والتنموية التي تكاد تعيد تشكيل العالم اليوم من خلال مشروعها الأممي الكبير “الحزام والطريق”.
هل يمكننا التساؤل في ختام هذه القراءة بالقول، “هل لم يعُد الشرق الأوسط الكبير مهماً للولايات المتحدة، أم أن النفوذ الأميركي التقليدي في المنطقة فقد بريقه الذي اكتسبه كإرث من الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية؟.
تصعيد المعارك بين أوكرانيا وروسيا يعيد إلى الأذهان مشاهد الحرب الثانية ويهدد بالثالثة (أ ف ب)
الشرق الكبير: لا أولوية عاجلة أميركية
حين بادرت إدارة بوش الابن إلى طرح رؤية الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، كانت مدفوعة بحدث طارئ قاهر تمثل في هجمات نيويورك وواشنطن، وعليه كان التركيز كل التركيز على الشرق الأوسط وساكنيه، انطلاقاً من أن المهاجمين جاؤوا من هناك.
اليوم وبعد نحو ربع قرن تقريباً على هذا الحدث الأثيم والأليم، “هل لا يزال الشرق الأوسط ودوله يشكلان الأهمية ذاتها التي كانت قبل عقدين، على رغم أنه لا يوجد بهما سوى الدم والرمال والدموع”، إن جاز لسادة أميركا الاقتناع بما فاه به ذات مرة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب؟.
الجواب جاء أخيراً على لسان الدبلوماسي الأميركي العتيد آرون ديفيد ميلر الذي عمل محللاً ومستشاراً ومفاوضاً لوزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط في الإدارات الجمهورية والديمقراطية.
باختصار غير مخلّ، الرجل يضع الأميركيين أمام حقائق طارئة كما النوازل، وفي مقدمتها الفخ المفتوح في بحر الصين الجنوبي وتايوان، الممثل بـ”فخ ثيوسيديديس” مع الصين، وكيف يمكن أن يتحول المشهد إلى مغامرة كارثية حال تدهور الأمر وانفلتت الرؤوس الساخنة على غير هدى.
أضف إلى ذلك الصراع الدامي بين روسيا وأوكرانيا الذي يخشى الجميع معه أن يتحول عند لحظة جنونية إلى مواجهة دموية، تقود العالم إلى حرب عالمية ثالثة.
ولعل الأميركيين اليوم مصدومون من تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن فقدان الشغف الأميركي لجهة أوروبا، وكيف أن واشنطن مهمومة ومحمومة بالصين أكثر من اهتمامها بأوروبا، مما يقلق الرئيس الأميركي المقبل حكماً لجهة الجار الأكبر والصديق الأقرب.
هل يعني هذا أن الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط يتراجع بالفعل؟.
ذلك كذلك قولاً وفعلاً، ما يفيد بأن زمن الـ”باكسا أميركانا” قد ولّى وأن واشنطن في أحسن الأحوال مهتمة فقط بعدم حدوث أزمة كبرى، كما الحرب بين إيران وإسرائيل، وليس همها الرئيس لبنان أو غزة.
ولعل كثيراً من الأحاديث التي تتناول شأن ترتيبات أميركية جديدة لشرق أوسط مغاير، متفائل بصورة مبالغ فيها، ذلك أنه إلى جانب أزمات واشنطن، ربما خسرت واشنطن أهم ما كان لديها في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، أي ثقة شعوب المنطقة بها التي رأت أنها قوة تحررية بازغة، بخلاف القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية التقليدية.
في ذلك الوقت، تعززت السمعة الأميركية لا سيما بعد إنذار أيزنهاور الشهير في زمن العدوان الثلاثي على السويس المصرية.
اليوم تفقد واشنطن نفوذها جراء أمرين، الأول تنكرها لحلفائها في كثير من المواقع والمواضع، وهو ما لفت إليه أحد دهاقنة الدبلوماسية الأميركية أخيراً، الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأميركية في نيويورك ريتشارد هاس، والأخير الغزل الشرق أوسطي على التناقضات، تلك التي تمتد من موسكو وتصل إلى بكين، وتمر بنيودلهي، وتسعى إلى كيب تاون، ومن هناك تعرج على بوينوس آيرس وبرازيليا، لتعود من جديد إلى قوى أوروبية أخرى بدأت تتنكر للأحادية الأميركية.
هل يعني ذلك أن الشرق الأوسط الكبير أو الجديد فكرة تم وأدها مرة وإلى الأبد؟.
باختصار، قد تتحسن الأمور في المنطقة، وقد لا تتحسن، وفي كل الأحوال المستقبل ليس مكتوباً في أي كتاب، أو في النجوم، فهو مشروط، ونتيجة لما يفعله أهل الشرق الأوسط، وفي مقدمتهم إسرائيل التي لو وافقت من قبل على مبادرة السعودية عام 2002، لكان الشرق الأوسط الجديد والسعيد وجد طريقه عبر دولة فلسطينية مستقلة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وغيرهما من الملفات الخلافية، لكن أورشليم قد أخفي عن أعينها ما هو لسلامها إلى حين إشعار آخر، ربما، مع مسؤولين يعرفون حق السلام وقدره في الحال والاستقبال.