1.في الولايات المتحدة يعتبر من غير القانوني لأي شخص ليس من السكان الأصليين لأميركا أن يمتلك ريشة النسر، وذلك بموجب القانون الفيدرالي الأميركي، وبهدف حماية التراث الثقافي والروحي للقبائل الأصلية.
الريشُ موجودٌ في كل مكان، لدرجة أننا لا نلحَظه غالباً. قد تعثرُ على ريشة في أي مكان تقريباً، على الرصيف، أو خلال البحث بين متعلّقاتك القديمة، ووجوده يكاد يكون عادياً. ولكن الريشَ يحملُ تحت مظهره الخفيف والرقيق ثِقَلَ التاريخ، كرمزٍ للطيران والحرية والتسامي.
مُستلهِماً من الطير المحلّق في السماء غير عابئٍ بالخطايا الأرضية، وصولاً إلى حضوره في شعارات أسطورية مقدسة وأيقونات دينية، وحتى تجلياته في تقليعات الموضة الحديثة، حمل الريش ارتباطاً بالطبيعة والحياة الدينية والخيال البشري. في الأدب والفن والسينما، يُمثِّل الريش أكثر من خفته الجسدية، جامعاً بين الهشاشة والقوة والزوال والدوام، متنقلاً في إحالاته من الصعود الروحي والخفة والحرية إلى الاستعمار والاستلاب الثقافي وتدمير الطبيعة.
قلبٌ أخفُّ من الريشة
في الحضارة المصرية، ارتبط الريش ارتباطاً وثيقاً بـ«ماعت»، إلهة الحقيقة والعدالة، التي تُمثِّل النظام الأساسي للكون، النظام الذي يحكم كل شيء، من حركات النجوم إلى السلوك الأخلاقي للأفراد. كان يُعتَقد أن «ماعت»، التي تم تصويرها بريشة نعامة واحدة على رأسها، تحملُ القوة لموازنة ميزان الحكم في الحياة الآخرة. عندما يموت شخص ما، تنتقل روحه إلى قاعة «ماعت» حيث يتم وزن القلب، الذي يُعتقد أنه يحتوي على جوهر الشخص، مقابل ريشة «ماعت»؛ إذا كان القلب أخف من الريشة، فهذا يدل على أن الميت عاش حياة نقاء وفضيلة، خالية من عبء الخطيئة الثقيل، وبالتالي يسمح إله الموتى «أنوبيس» (والذي له رأس ابن آوى) للروح بالمرور إلى حقل القصب Field of Reeds أو أرو A’Aru، وهي نسخة فردوسية من العالم تعيش فيها الأرواح في سلام أبدي؛ وإذا كان القلب أثقل من الريشة، فإن «أميت» أو «مُلْتَهِمَة الموتى»، والتي لها جسم أسد ورأس تمساح وأرباع فرس النهر، تلتهم هذا القلب. التهامُ القلب يعني موتاً نهائياً، حيث يُحكم على الروح المثقلة بالخطيئة بالنسيان- وهو مصير بدا أسوأ من الموت نفسه في تلك الأدبيات.
لدى بعضٍ من قبائل السكان الأصليين لأميركا، مثل سيوكس Sioux، احتلَّ الريش ورمزيته مكانة متقدمة في الأدبيات الروحية لتلك القبائل، مُجسِّداً روحَ الطائر الذي جاء منه، فهو ذو ارتباط مباشر بالخالق أو الروح العظيمة. يتجلّى هذا الاعتقاد بشكل واضح في تبجيل ريشة النسر، باعتباره يُحلّق على ارتفاعات كبيرة ولديه رؤية استثنائية، وبالتالي كان يُنظَر إليه على أنه رسول بين العالم البشري والعالم الروحي، حيث يحمل في ريشه الصلوات إلى السماء ليعود حاملاً البركات من الأعلى. نظراً لهذه القدسية، كان التكريم بتقديم ريشة النسر أحد أسمى التكريمات، وهو اعترافٌ بالشجاعة أو البصيرة الروحية يُقدَّم فقط لأولئك الذين قاموا بعمل شجاع، وذلك خلال احتفالات مهيبة تؤكد على المسؤولية والشرف والشجاعة والاحترام والتواضع الذي يأتي معها. كذلك، كان إهداء الريش عملاً دبلوماسياً مهماً، يُستخدم لتشكيل التحالفات وإظهار الاحترام بين القبائل أو الأفراد المختلفة، مما يضفي على الفعل نفسه ثقلاً روحياً يتجاوز الكلمات.
لا يزال الريش مُستخدَماً في احتفالات التلطيخ smudging ceremonies التي تقوم بها القبائل الأصلية، حيث يتم نفخ الدخان الناتج عن حرق الأعشاب مثل الميرمية بواسطة ريشة لتطهير الأماكن والأشياء والأشخاص من الطاقات السلبية. في مثل هذه الطقوس، يُستخدَم الريش كوسيلة لتوجيه الدخان المقدس والصلوات إلى الأرواح. رمزية الريشة كحلقة وصل بين الأرض والروح متجذرة في الاعتقاد بأن الطيور لها علاقة أوثق بالسماوات، وبالتالي مع الآلهة1. وقد يكون ما وصلنا من هذه الثقافة هو مصائد الأحلام، حيث من المفترض أن الريش المتصل بالشبكة يلتقط الأحلام السيئة، مما يسمح فقط للأحلام الجيدة بالوصول إلى النائم.
انتقلت رمزية الريش إلى العديد من التقاليد الدينية. في المسيحية، غالباً ما يرتبط الريش بالملائكة، رُسل الله، وهي كائنات يتم تصويرها بأجنحة مكسوة بالريش. يتردد صدى هذه الصور في المزمور 91:4: «بريشه يظلّلك، وتحت أجنحته تجد ملجأ، وتكون أمانته ترساً وحصناً». يتم استخدام الريش هنا مجازياً لتمثيل العناية الإلهية والنقاء من جهة، وخفّة الروح المحررة من أعباء الخطيئة والأعباء الأرضية من جهة أخرى. في اليهودية والإسلام، لدى الريش قيمة رمزية في سياق النقاء الروحي؛ في سفر التثنية 32:11 تم استخدام استعارة الأجنحة وتشبيه الله بالنسر الذي «يحرك عُشه وعلى فراخه يرف، ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على مناكبه»؛ ويحضر الريش في الإسلام في قصة رحلة الإسراء والمعراج التي صعد خلالها النبي محمد إلى السماء، حيث قيل إنه ركب البراق، وهو مخلوق سماوي بأجنحة نسر كاستعارة لرحلة الروح نحو الحقيقة الإلهية.
الاستعمار والتحولات الثقافية
كان وصول القوى الاستعمارية الأوروبية إلى الأميركيّتين وأفريقيا وآسيا سبب تحولٍ كبير في رمزية الريش. فقد شهدت الثقافات الأصلية، التي طالما كانت تعتبر الريش مقدساً، استيلاء المستعمرين على تقاليدها وتحويلها إلى سلعة. وأصبح الريش من التحف الغريبة التي يتم جمعها وعرضها في المتاحف الأوروبية والمجموعات الخاصة. على سبيل المثال، كانت عباءات شعب توبينامبا البرازيلية المصنوعة من الريش مرغوبة لدى المستكشفين والتجار الأوروبيين، الذين اعتبروها رمزاً لـ«الوحشي النبيل» noble savage.
في عصر النهضة الأوروبي، أصبح الريش إكسسواراً شائعاً بين الجنود والنخبة الحاكمة. تشير المؤرخة أولينكا روبلاك من جامعة كامبريدج إلى أنه مع استعمار الأوروبيين لأراضٍ جديدة، واجهوا ثقافات تُبجِّل الطيور باعتبارها ذات صفات ألوهية، وبالتالي لها فوائد وقائية، عندها بدأ الجنود الأوروبيون بتزيين قبعاتهم بالريش، وربطوها بالشجاعة والقوة. كانت لريش النعام على وجه الخصوص قيمةٌ مادية ومعنوية عالية، حيث كان سعر الريش من حيث الوزن ينافس سعر الألماس، وأصبحت مراوح ريش النعام التي استخدمها العبيد لصالح العائلة المالكة الأوروبية رموزاً صارخة للاستغلال الاستعماري، حيث اشتهرت إليزابيث الأولى بامتلاك مجموعة من مراوح ريش النعام، واعتبرتها «الهدية الوحيدة المناسبة لملكة».
خلال القرن التاسع عشر، تحوَّلَ صيد النعام إلى هواية شعبية بين الأرستقراطيين الإنكليز. وكانت هذه الرياضة رمزاً لرغبة النخبة في إظهار سيطرتهم على الأرض والطبيعة. كان لصيد النعام جاذبية خاصة بسبب حجم الطائر وسرعته، ما جعله فريسة صعبة. أقيمت هذه «المذابح» غالباً في أفريقيا، حيث وفّرت الموائل الطبيعية للنعام خلفية برية زادت من جاذبية هذه الرياضة، خاصة أنها رياضة مربحة في الوقت ذاته. ألقى استغلال الريش الاستعماري هذا بظلاله، لا على الحياة الثقافية للجماعات المستَعمرة وحسب، بل على العالم الطبيعي كذلك، فتم تصدير ريش النعام الأفريقي بكميات كبيرة لتلبية الطلب الأوروبي، إلى الحد الذي أدى إلى انهيار شبه كامل لمجموعات النعام في بعض المناطق. كما أن استخراج الريش كان (ولا يزال) يتبع أساليب وحشية، مثل اصطياد وقتل الطيور وسلخها فقط من أجل ريشها.
في أوائل القرن العشرين، اكتسب الريش معانٍ جديدة كرمز للأناقة والفخامة، وانتقلت استخداماته إلى عالم الموضة والزينة الشخصية، وبرز في الأزياء الراقية والأزياء اليومية، حيث بدأ المصممون بإدراجه في كل شيء، من الفساتين إلى الإكسسوارات مثل القبعات والأقراط ومشابك الشعر. كما تم استخدامه في عالم الموسيقى والرقص والمسرح، حيث يمكن للأزياء المزيّنة بالريش أن تستحضر شعوراً درامياً، ما جعلها عنصراً أساسياً في عروض برودواي وعالم البورليسك burlesque والكباريه.
تلك الصدفة، التي تهبط في أي مكان
في الفنون والأدب استُخدِم الريش بشكل متكرر لاستحضار موضوعات الحرية والتحول والتحرر من العالم المادي. في العديد من الأفلام يظهر الريش في لحظات التغيير أو الكشف الكبير. في فيلم فوريست غامب (1994) تطفو ريشة بيضاء واحدة في الهواء في المشاهد الافتتاحية والختامية. تظهر الريشة لأول مرة في بداية الفيلم وتسقط عند قدمي فوريست فيضعها في حقيبته، قبل أن يبدأ في سرد قصة حياته. في نهاية الفيلم، تظهر ريشة أخرى بعد أن يرسل فوريست ابنه في الحافلة ليومه الأول في المدرسة. تُمثِّلُ الريشة عشوائية الحياة، فجميعنا نطفو عبر العالم أينما تأخذنا الرياح، والكثير مما يحدث قد يكون مجرد صدفة؛ للخير أو الشر. فَسّرَ توم هانكس، الذي لعب دور فوريست، رمزية الريشة بالقول: «إن مصيرنا يتحدد فقط من خلال كيفية تعاملنا مع عناصر الصدفة في حياتنا، وهذا ما تجسده الريشة، التي يمكن أن تهبط في أي مكان، وهذا له دلالات لاهوتية هائلة».
حمل الريش أيضاً دلالات لاهوتية ووجودية في آثار أدبية معروفة. في الكوميديا الإلهية لدانتي، يلعب الريش دوراً رمزياً في صعود الروح وخِفّتها. في جميع أنحاء أقسام «المطهر» Purgatorio و«الفردوس» Paradiso يتم تصوير الملائكة بأجنحة مكسوة بالريش كوسطاء بين الله وأرواح الموتى. ويصف دانتي ريش الملائكة بأنه كبير ومشرق ومتعدد الألوان، تماماً مثل ريش الببغاء، ليشير إلى الثراء والجمال والتنوع في العالم الروحي. استخدمَ دانتي رمزية الطيران والريش كذلك إلى ما هو أبعد من العوالم السماوية، كما يظهر جلياً في حكاية إيكاروس من الأساطير اليونانية. يشير دانتي إلى رحلة إيكاروس المشؤومة كمثال تحذيري للغطرسة وحدود الطموح البشري. وبحسب الأسطورة، فقد حاول إيكاروس الهروب من السجن في جزيرة كريت من خلال صناعة أجنحة من الريش والشمع، وهو اختراعٌ من صُنعِ والده دايدالوس، الذي حذره من الطيران عالياً أو بشكل منخفض للغاية، ولكن إيكاروس، مدفوعاً بإثارة الطيران، حَلّقَ بالقرب من الشمس، التي أذابت حرارتها الشمع الذي يربط الجناحين، ما تسبب في سقوط إيكاروس في البحر حيث لقيَ حتفه.
استخدم جيوفاني بوكاتشيو في كتابه الديكاميرون الريشَ أيضاً للدلالة على محدودية البشر وسذاجة المؤمنين أحياناً، حيث يزعم الراهب سيبولا أنه يمتلك ريشة من أجنحة رئيس الملائكة جبرائيل، الذي يُعتبر الأكثر تبجيلاً في اللاهوت المسيحي، يستخدم الراهب الريشةَ للتلاعب بجمهوره من التابعين وخداعهم. تتحول الريشة، في هذا السياق إلى أكثر من مجرد كائن مادي؛ فهي ترمز إلى تقاطع الإيمان والقوة والاستغلال، فهو يستغل الصورة الرمزية للريشة، وتمثيلاتها للنقاء والروحانية، لتحقيق غاياته الأكثر أرضية.
في رواية مئة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز، يصوَّر مشهد موت ريميديوس «الجميلة التي لم تشبه هذا العالم» عبر تناثر ريشها. يصف ماركيز هذا التحول: «كانت ريميديوس الجميلة امرأة ذات جمال أسطوري، وأصبحت المرأة الأكثر إثارة للإعجاب في المدينة… عندما ماتت، لم تمت. لقد ارتفعت ببساطة إلى السماء، وبينما صعدت، سقط عدد كبير من الريش الأبيض من جسدها». الريش هنا قد يمثل استعارة بصرية للنقاء والطبيعة غير الدنيوية والسمو الروحي لريميديوس، صورة تُظهِر امتزاج السحر بالواقع، الصوفي بالعادي.
في رواية العندليب والوردة لأوسكار وايلد، يمثل الريش التضحية المتأصلة في الحب الحقيقي. يستخدم وايلد العندليب، الشخصية المحورية في القصة، للإشارة إلى التباين بين الحب غير الأناني للطير وضحالة قيم البشر. في القصة، يتعرّفُ العندليب على مشكلة طالب شاب يريد إهداء حبيبته وردة، لكن الورود غير متوفرة، هنا يقرر العندليب التضحية بنفسه، يطعن نفسه بشوكة كي يلون بتلات الوردة بدمه: «إنما الحب هو أفضل من الحياة. وما هو قلب عصفور مقارنة بقلب رجل؟». في النهاية يقدم الشاب الوردة للفتاة ولكنها ترفضها قائلة: «ابن أخي وصيف البلاط الملكي أرسل إلي جواهر حقيقية، والجميع يعلمون أن الجواهر تكلف أكثر بكثير من الأزهار». يستخدم وايلد العندليب وتضحيته لتصوير الجمال غير المرئي في أفعال الحب غير الأناني، التي غالباً ما يتم تجاهلها أو التقليل من قيمتها، يصبح الريش المغطى بالدم رمزاً للفرق بين نقاء الحب وسعته، وسطحية الرغبات الأرضية ومحدوديتها.
أما إيميلي ديكنسون فهي تقدم المثال الأجمل لرمزية الريش في قصيدتها: الأمل هو الشيء ذو الريش:
الأمل هو الشيء ذو الريش
الذي يستقر في الروح –
ويغني اللحن دون كلمات –
ولا يتوقف أبداً – على الإطلاق.
في هذه القصيدة، تستخدم ديكنسون صورة طائر ذي ريش لتمثيل الأمل كقوة مستمرة داخل الروح البشرية، الاستعارة تدل على خفة الأمل. يجسد الريش مفارقة فريدة من نوعها، فقد يُخطئ البعض في فهم خِفّة وزنه lightness على أنها هشاشة delicacy. قد يرمز الريش إلى الأثيري والسامي، ولكن دوره في الطيران وتصميمه المُعقَّد يشير إلى أنه يتجاوز مجرد الهشاشة. إن استخدام ديكنسون للريش لتمثيل الأمل قد يؤكد على هذه الثنائية؛ إن الأمل، مثل الريش، قد يبدو رقيقاً، لكنه قوي وقادر على أن يترك أثره على الروح.
تجاوزَ الريشُ الزمن والوسائط، من الأساطير القديمة إلى الفن الحديث، ومن الاحتفالات الروحية إلى الروايات والتجارب الإنسانية، من الحرية والجمال إلى الهشاشة والغرور كما في ملائكة دانتي وأجنحة إيكاروس. ولكن ليست كل الأجنحة مصنوعة من الريش، لهذا يقول محمود درويش «أَمشي خفيفاً لئلاَّ أكسر هشاشتي، وأَمشي ثقيلاً لِئلَّا أَطير».
مقالات مشابهة