بعد بلوغ الحرب بين روسيا وأكرانيا مرحلة مراوحة، باعتراف قائد قوّاتها على الأقلّ، بدأ بعض حلفاء كييف ينصحونها بتغيير استراتيجيّتها. مع ذلك، هم يعترفون بأنّ إقناع المسؤولين الأوكرانيّين بهذه المهمّة صعب.

جاءت أحدث هذه النصائح في تحليل  للرئيس الفخريّ لـ”مجلس العلاقات الخارجيّة” ريتشارد هاس والباحث البارز في المؤسّسة نفسها تشارلز كوبشان. حضّ الكاتبان كييف على التحوّل من الهجوم إلى الدفاع لأنّ ذلك يمنحها مزايا عدّة. ففي مقابل الهجوم الذي يستهلك الكثير من الأسلحة الغربيّة بدون نتيجة واضحة، سيكون بإمكان أوكرانيا الاستفادة من هذه الدعم العسكريّ الغربيّ لحماية نفسها وإعادة تفعيل اقتصادها والحفاظ على عدد أكبر من مقاتليها بالمقارنة مع مواصلة الهجوم. بهذه الطريقة، ستستطيع أوكرانيا “قلب الطاولة” على الروس كما كتبا، خصوصاً إذا اقترحت وقفاً للإطلاق النار ورفضته موسكو.

صعوبات… من السياسة إلى الميدان

خلال مرحلة الدفاع، أبرزت أوكرانيا كفاءة قتاليّة عالية في حماية عاصمتها وأظهرت أنّ الجيش الروسيّ أضعف من المتصوّر خصوصاً في مسألةالامدادات. بالتالي، إنّ عودة أوكرانيا إلى هذه الاستراتيجيّة تبدو منطقيّة. والتوقيت أيضاً مناسب. يبدو أنّ روسيا حصلت على دعم كبير مؤخّراً من الذخائر الكوريّة الشماليّة وصلت إلى مليون ذخيرة بحسب ببعض الارقام . ثمّة شكوك حول الذخائر لكنّ فاعليّة ولو جزء منها كافية لترك بصمة على الميدان.

وبحسب رويترز، تبني روسيا على أراضيها مصانع للطائرات الإيرانيّة المسيّرة بلا طيّار. من جهته، اعترف الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي بأنّ دعم الغرب لبلاده بذخائر 155 مل متضاءل  بعد الحرب الإسرائيليّة على “حماس”. ويعرب البيت الابيض عن خشيته من الفشل في تمويل شحنات من الأسلحة إلى أوكرانيا بسبب خلافات في الكونغرس.

في الوقت نفسه، ثمّة احتمال جدّيّ لعودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض سنة 2025. إذا كان ترامب راغباً فعلاً بقطع المساعدات العسكريّة عن أوكرانيا فستكون الاستراتيجيّة الأوكرانيّة الجديدة قراراً ممهّداً لحماية نفسها وسط تغيّر المشهد الدوليّ. من جهة موازية أيضاً، إن كانت إدارة بايدن قد ركّزت في 2024 على نقل أسلحة دفاعيّة إلى أوكرانيا فقد لا يجد ترامب مشكلة كبيرة في مواصلة دعمها بهذه الأسلحة حصراً. سيكون بإمكانه الترويج لفكرة أنّ مساعدة أوكرانيا بواسطة أصول دفاعيّة بحتة لن يشعل “حرباً عالميّة ثالثة”.

“انهزاميّون”

بالعودة إلى مقال هاس وكوبشان، يلاحظ المحلّلان أنّ الاستراتيجيّة الدفاعيّة لا تتطلّب من أوكرانيا التنازل عن أراضيها على المدى البعيد، كما لا تمنع أوكرانيا من مواصلة استهداف المراكز الروسيّة بواسطة أسلحة طويلة المدى وأصول بحريّة وعمليّات سرّيّة في الجبهة الخلفيّة. بالفعل، يقول مسؤولون أوكرانيّون إنّهم طوروا الصورايخ  محلّيّة الصنع إضافة إلى طائرات بلا طيّار تمكّنها من مواصلة هذه العمليّات. وهذه نقطة قوّة لها أكان في الميدان أو على طاولة المفاوضات. وحقّق الأوكرانيّون اختراقاً نوعيّاً عبر تأمين مواطئ قدم عدّة على الضفّة الغربيّة لتهر دنبيبرو، وهي عمليّة تتطلّب مهارة خاصّة بالنظر إلى تطلّبها نقل معدّات ثقيلة عبر النهر بعيداً من أعين الروس. باختصار، تمكّن عودة أوكرانيا إلى القتال الدفاعيّ المسؤولين في كييف من إعادة إلقاء عبء الخسائر المادّيّة والبشريّة على روسيا بدلاً من أن تكون ملقاة على كاهل شعبها واقتصادها. لكنّ ذلك قد يترك سلبيا على المعنويّات الأوكرانيّة أيضاً.

بطبيعة الحال، ليس كلّ حلفاء أوكرانيا مقتنعين بهذه الاستراتيجيّة. لا يزال كثر يعتقدون بأنّ الوقت وتوازن القوى يقفان إلى جانب كييف، لكنّ المشكلة تكمن في أنّ الغرب متلكّئ بفهم هذه الديناميّة كما يقولون. على سبيل المثال، ردّ الكاتب السياسيّ والاقتصاديّ أنديرس أسلاند على مقال هاس وكوبشان كاتباً في منشور على منصّة اكس ” أنّهما مخطئان في الكثير من النقاط

يذكّر أسلاند بأنّ كوبشان خدم في إدارة أوباما التي منعت إرسال أسلحة إلى أوكرانيا وبأنّ روسيا لم تلتزم بأيّ من تعهّداتها السابقة للتفاوض معها. ويشير إلى أنّه لم يسبق للغرب أن سخّر كلّ قوّته في دعم أوكرانيا وبالتالي، لا يستطيع الكاتبان أن يكونا واثقين بأنّ المزيد من الدعم سيؤدّي إلى المراوحة نفسها. كما يلفت نظر “الانهزاميَّين” (توصيفه) بأنّ الناتج القوميّ الروسيّ يمثّل فقط 4 في المئة من الاقتصاد الغربيّ. وكان أسلاند قد كتب مقال رأي في صحيفة “ذا هيل قبل أيّام انتقد فيه مستشار الأمن القوميّ جيك سوليفان على غياب الوضوح في استراتيجيّته وعلى “الأعذار” التي يقدّمها لكي لا يمنح أوكرانيا الأسلحة الحيويّة التي تحتاج إليها.

عقبات أخرى

في مقابل هذه الأرقام، ثمّة إشكاليّات أخرى أمام الأوكرانيّين والأميركيّين. على عكس الولايات المتحدة التي ينبغي عليهاتقسيم جهودها  على ثلاث مسارح دوليّة دفعة واحدة، وهي مسارح بعيدة عنها أيضاً، تركّز روسيا جهدها على مسرح واحد وقريب منها. بسبب كثرة هذه المسارح، يمكن أن يكون هناك حدود لإمكانات الولايات المتحدة في دعم أوكرانيا ببعض الأسلحة على الأقلّ، بصرف النظر عن الفارق بين الاقتصادين والذي يصبّ بشكل حاسم لمصلحة واشنطن.

تستطيع الولايات المتحدة مثلاً تصنيع 28 ألف قذيفة مدفعيّة من عيار 155 ملم في الشهر الواحد، وهذا ما استهلكته الحرب الأوكرانيّة خلال الأشهر القليلة الماضية في من ٥ الر ٦ ايام  أو حتى في غضون ٣ ال ٤ ايام  بحسب تقديرات أخرى. تتوقّع واشنطن الوصول إلى عتبة ٨٠ الف  قذيفة شهريّاً بحلول أوائل 2025 لكنّ قسماً منها سيذهب على الأرجح إلى المخزونات. ولا تزال أوروبا الأطلسيّة بعيدة من أن تفي بتعهّدها تخصيص 2 في المئة من ناتجها القوميّ على إنفاقها الدفاعيّ  علاوة على كلّ ذلك، أمكن أن تحقّق أوكرانيا انتصارها الكامل لو كانت قد حصلت على الأسلحة والتدريبات الغربيّة اللازمة  2022-2023 حين لم تكن روسيا قد بنت خنادقها في أوكرانيا. ويعترف قادة أوكرانيّون في الميدان أنّ الروس في هندسة الخنادق حتى أنّهم يعربون عن ارتياحهم عندما يستولون على خندق روسيّ بالنظر إلى الحماية التي يقدّمها.

ليس معنى جميع هذه المؤشّرات أنّ روسيا مرتاحة في حربها حتى مع الدعم الكوريّ الشماليّ المستجدّ. فبعد أكثر من عام على إعلانها ضمّ أربع مناطق أوكرانيّة (لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون) لا تزال روسيا عاجزة عن احتلال هذه المناطق بأكملها. بعبارة أخرى، تواجه موسكو أيضاً تعقيداتها الخاصّة في كيفيّة مواصلة الحرب. وهذا ما يُظهره الإخفاق في حرب السيطرة على بلدة أفديفكا التي انطلقت في 11 تشرين الأوّل الماضي، بالرغم من التقدّم البطيء الذي حقّقه الروس.

فهل يعيد الطرفان تقييم استراتيجيّتيهما في الشتاء؟ يحتاج الجواب إلى بضعة أشهر للتبلور.