*
……آخر المتعلقين بقاطرة الحضارةأنا…….آخر الواصلين إلى هذا الفضاء الأزرق كنت.
ليس في حياتي معجزات وطبعاً لن يكون ،وربما وصولي بعد عقد أو أكثرمن الجدل هو فقط المعجزة،إلى الآن لم اتقصى الأسباب الحقيقية، لإبتعادي عن كل صخب التكنولوجيا ، ومفردات الحداثة.
يوماً ما شاهدت على إحدى القنوات، رجلاً يقيم هو وأولاده في مسكنه الطيني في الصحراء المغربية، بعيداً عن قريته الصحراوية أيضاً، يعيش ويتعايش مع الأفاعي ، وأنواع أخرى من الزواحف النادرة، بكل ألفة وسلام…… ويطلق الأسماء المحببة على بعضها، وعندما يأتي التجار المهرة، لشراء بعض هذه الأفاعي،لتوريدها غرباً،يحزن على فراقها ويودعها بالدموع،وقد يَتغيب عمداًلشدة تعلقه بها ، و يدع الأولاد يقومون،بهذه المهمة الحزينة….وهي مصدر الرزق الوحيد لحياته ……..
.********************
لاأعرف العمق الفلسفي، لهذا الرجل الذي بإرادته إختار أعمق أعماق الصحراء،وأبسط المفردات،وكائنات بعينها، ليعيش معها، بمنتهى السلام.
ولاأعرف أن هذا الرجل سيكوّْنني….أو على الأقل في بعضه،تحديداً في إختيار هذا المسكن
الطيني ،الغائر في أعماق الصحراء،أو الحزن الشديد، عند وداعه لمن ألفه يوماً…
أيضاً لاأعرف أنني سأقيم في ذلك المسكن الطيني،الغائر في أعماق الصحراءوأصاب بنوبات الحزن،عندما أضطر لوداع الكائنات، التي أعيش معها أو أربيها،وأنا الذي أحفر إسمي،على كل صخرة جلست عليها يوماً،وعلى كل شجرة تظللت بفئيها،ويذبحني تورطي البعيد في مياه الحنين.
لاأعرف إذا كان يمكن اقتلاعي،من ذلك المسكن المنفرد في الصحراء لأنجز وداعاتي الكثيرة ،وأمضي إلى كل قرية وكل مدينة وكل نهر تم إمحاءهم من الوجود،وأنجز مايليق لوداعهم،أوالتهاتف مع الطيور ،التي تناثر ريشها، أبعد من مملكة الخوف بقليل….
********************
هذا الفضاء الأزرق،يصرّْعك أحياناً ويوصل إليك كل الصراعات، وكل قبح العالم، ويبتعد عن الصراعات الحقيقية، وقبل أن
يصرعني أمرر سلامي للجميع وعلى الجميع، أما صراعي الوحيد المتبقي، هو مع غول الوقت….
لاأعرف متى سأصبح بني أدم طبيعي،متيقظ كالأخرين، يقبضون على مفاتن الوقت، ويصلون إلى كل المواعيد، وإلى كل الأشجار….أو إلى كل المتاحف السرية للجمال، ومخابئ الاساطير.
وإن حدث،ومضيت إلى أحد هذه المتاحف،ينتفض قلبي كطفل تائه عثر على أمه….
البارحة عندما إعتقدت، أنني صرعت الوقت، وكنت أقوم، بنزهة في متحف الرسامة غيداء صقر ،وكنت في رحلة إبهار عذبة،صرعني الذهول وربما الحزن عندما وصلت إلى أن هذه الفنانة العبقرية ترسم بأنفها، أو في الغالب بأصابع قدميها…..لم أستطيع أن أتابع سيري،في هذا المتحف الفني الجميل، تراجعت إلى الخلف…….إلى التحفة الإنسانية العظيمة غيداء، على كرسيها المتحرك……لاتقوى على إستخدام أصابع يديها،في الرسم،فأبدعت بإستخدام أنفها وأصابع قدميها.
الذي تسلل إلى عقلي وقلبي، أوزن وأجمل عنف أواجهه، إنه عنف الذهول…والذي قد يرديك،أو يشنقك خجلاً….
********************
غيداء معلوماتي عنك، لاتتجاوز بحرف، مارأته عيوني،وهذا كافٍ لأقول لك: أيتها المسافرة في سماء الألوان وعلى إمتداد البحار،والطائرة إلى أعلى سماء،وتتماهين مع الغيوم،أنك تسافرين، كما سافر المسيح،على سطح الماء،ووصل إلى كل القلوب، ونورها بالضوء والحب،أنتِ أيضاً فتحتِ قلوبنا وأزلتِ أطنان الصدأ المتراكم، وأرسلتي حزمة نور داخلها….
*********************
هذا كان البارحة….
اليوم صحوت،كانت غيداء على كرسيها،تجلس قبالتي، دعوتها للقهوة،وقدمت لها وردة ودمعة……. الوردة هي تحية الذهول بالتأكيد، والدمعة هي دمعة إعتذار …..
هي دمعة ذلك الرجل القاطن في أعماق الصحراء، الذي إحتفظ بمشاعره كالغابة العذراء،ولايقوى على حبس دموعه…..
أه….كم أعدتِ إعماري …..؟أيتها المنحوتة الإنسانية المصابة بالجمال.
لوحاتك ورسوماتك…. مجد إنساني سيتصدر متاحف الأبد.
*****************************
إلى الرسامة والمبدعة غيداء صقر….ابنة الأديب علي صقر.
متحفها الفني على صفحتها ” ذوي الهمم الرسامة غيداء صقر” .