يزخر أدبنا الشفاهي الكردي بغناه وغزارته، مما أثار اهتمام الكردولوجيين من أمثال “رودينكو ونيكيتين” وغيرهما وهم كثر؛ وتحتل الحكاية صدارة أدبنا المحكي، لأن ظاهرها ترويح عن النفس، وباطنها تفوح بحكمة تتناول واقعنا العياني.
وكانت الجدّات ترويها عادة في ليالي الشتاء على ألسنة الحيوانات أو الجمادات، اتقاء للرقابة التي كانت تصادر حرية التعبير المباشرة، أو غير المتاحة، فالسلطة وزبانيتها كانت تتربص بالناس، حتى قيل “الحيطان لها آذان”. وما زال الناس يتخذون العبرة من مصير “ايزوب” اليوناني، الذي دُحرج على ظهر صخرة شاهقة، ليقضي نحبه في بطن الوادي المجاور، عقب تناوله مثالب واقعه المزري.
وقد أحسن الصحفي نواف بشار عبدالله حين نشر حكاية بالكردية في العدد 11 من مجلة Gelawêj الصادرة عام 1984، تحت عنوان ((Dehla Zozan، وجاء فيها:
عاش طائر الحجل في عش ورثه عن أسلافه، بني على غصن شجرة في جبل عالٍ يطل على نبع، وكان صوت قبقبته يمتزج بخرير الماء الرقراق وحفيف الشجر، فتغدو أشبه بسيمفونية رائعة. استفاق الحجل مرتعشاً ذات يوم على زعيق باشق يهدده بمغادرته لعشه قبل أن يهدر دمه، فاضطّر الحجل للنزوح وهو يذرف الدموع. لكنْ، تناهى إليه صوت يحثه للبحث عن وسيلة يسترد بها عشه المغتصب، لأن الدموع لا تجدي نفعاً، فصمم على استعادة عشه بأي ثمن، وحين التقى بالطيور سألوه: ما الخطب؟ فروى لها حكايته. قال طائر الكركي: نعم، لقد قُتِل كثيرون بمخالب هذا الباشق. ثم أضاف: علينا بالاتحاد ومهاجمته، فالموت أهون من العبودية، لنمت بشرف كي يعيش صغارنا بأمان. أراد الباشق الفرار حين لاحت له أسراب الطيور، بيد أنها انقضّتْ عليه بمناقيرها ومخالبها فمزقته إرباً إرباً، فشكرها الحجل حينئذٍ على حسن صنيعها.
إن الحكمة على لسان الحيوان كما يقول محمد النجار، أدعى للقبول والإقناع منها على لسان الإنسان، الذي تنطوي حكمته الإرشادية ونصائحه الوعظية على نوعٍ من الاستعلاء الضمني بين الناصح والمنصوح، وهو أمر – في حقيقته – مرفوض من المتلقي لا شعورياً. من هنا يتوجب علينا الاهتمام بأدبنا الشفاهي الذي يتميز بتنوعه، ونستنبط دلالاته وفق مناهج البحث المعاصرة، فحكاية الحجل والباشق السالفة الذكر، توحي اليوم بمأساة سوريا عامة والجزء الكوردستاني الملحق بسوريا خاصة، فمازال الباشق التركي يحوم في سماواتنا، ويريق دماء أخوتنا، ويهندس لإحداث التغيير الديمُوغرافي في المناطق المحتلة (عفرين، تل أبيض، رأس العين، إدلب) التي طالتها مخالبه.
لقد أدرك جواهر لال نهرو منذ نحو قرن طبيعة النظام التركي، فراح يعبر عن أسفه في رسالة لابنته أنديرا غاندي، من السجن الذي كان يقبع فيه، وأبدى لها عن استغرابه عما أقدمت عليه تركيا من قمع الشعب الكردي بمنتهى الوحشية جرّاء نضاله واستبساله من أجل الحرية. وتساءل نهرو: كيف تقدم تركيا على سحق شعب مُصر على نيل حقوقه القومية، وهو على استعداد لدفع ثمنها؟ وكان رفض مانديلا لاستلام جائزة أتاتورك، صفعة في وجوه مهندسي التتريك، فقال للصحفي الذي استغرب عن إحجامه على استلامها: حاول أن تكون كردياً ساعة واحدة، حينئذٍ ستدرك لماذا رفضتُ الجائزة…!