اشتعلت الحرب في المنطقة، وتأخّرت المواجهات العسكرية الواسعة بين الجيوش، وحُصرت فقط في نطاق غزة. وحتى تلك التي خرجت صوب لبنان سُمّيت مناوشات! لا أحد يجرؤ على إلقاء شرارة في السهل ليحترق! حتى الآن على الأقل.
لكن الكل يعرف أنّ دائرة الحرب تعنيه، وحيث قال البيت الأبيض إنّها حرب أميركا المقدّسة، ردّت أوروبا “آمين”، غير متردّدة في اللحاق بالركب، بل قال إيمانويل ماكرون، لماذا لا يُعلَن تحالف دولي ضدّ “حماس”؟ وهو ليس برأي، ذاك ما يُسمّى جس النبض!
الآن الكل يتحسّس رأسه في المعركة، فعاصفة غزة ستتجاوز القطاع إذا ما أصرّ الكيان الإسرائيلي على إكمال خطته في التهجير لأهل غزة، فسياسة أنّ فلسطين يجب أن تكون أرضاً خالية من السكان من أجل السلام، تعني حرق السهل كله وليس غزة المحاصرة منذ عقود!
ولكن، نظرية قيام الكيان الإسرائيلي نفسه قائمة على حلمه في إلغاء فلسطين لا غزة فقط. وهذا جوهر صراع الوجود الممتد منذ قرابة قرن كامل وليس وليد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) فقط، كما يريد العالم أن يتوقف عنده، لذا دائرة الصراع تمتد إلى خارج الجغرافيا كلها. هي الحرب بكل معنى الكلمة، على كل المنطقة، وجوهر ذلك القضية الفلسطينية برمتها.
قِطَعٌ بحرية لم يسبق لها مثيل فى المنطقة حتى أيام الحرب العالمية وأوج الحرب الباردة، وكل ذلك على غزة التي ليس معها قوات بحرية! ذاك غير منطقي! وطيران يجوب سماءً ما عاد فيها قمر يسهر على صبر العاشقين. واستخبارات الدنيا تفرّغت لهذه الزاوية من الأرض، وتراشق إعلامي إلى حدّ القتل المعنوي للأشخاص والدول.
وإذا كانت أميركا أعادت تموضعها في المنطقة، فإنّ حضور الآخرين ليس بغائب كليةً، وإيران لم تتأخّر كثيراً وأعلنت مناورتها أيضاً، وهي تريد أن تلعب دور اللاعب الثالث، ذاك الذي يكسب فقط في انتظاره نتائج صراع المنافسين له، فلا يكون عليه غير أن ينتظر، وهي تجيد لعبة الصبر، منذ مهنة صناعة السجاد إلى صناعة الأذرع التابعة لها.
وروسيا والصين ليستا ببعيدتين عسكرياً، أما سياسياً، فقد أكّدتا حضوراً لافتاً على واشنطن في مجلس الأمن، بل وعادت روسيا لكل أرشيف الاتحاد السوفياتي ومجده الدبلوماسي! أوروبا الرسمية لم تتردّد في لعب دور التابع لفتى الكاوبوي، وظهرت ثقافة القطيع لدى النخبة السياسية الأوروبية بشكل لا يخفف من دوي سقوطها غير رفض الشارع الغاضب لهذا السقوط!
ولكن، القرار لم يصل إلى يد رؤساء الأركان في الجيوش بعد، ما زال السيرك السياسي حاضراً إلى حين! ونحن فقط ننتظر… ذاك قدر على ما يبدو وليس اختياراً.
الأمور لا تحتاج إلى قراءة المندل، ولكن تحتاج إرادات للتغيير، والفعل الذي تمّ في السابع من تشرين الأول هو حق مشروع في عرف المقاومة، ولا يحتاج إلى جهد في التبرير، فالقول بقبول الاحتلال إذلال لا يقبله منطق، ولا يقرّه شرع أو قانون. أما النقد لتصحيح المسار، فواجب، حيث لا يكون هناك فعل عسكري من دون هدف سياسي يوازي حجم هذا الفعل، حتى لا يغدو الإقدام الباسل أقرب للانتحار.
والمقاومة صارت بحاجة لإصلاح الداخل وتوحيد الصف أكثر من أي وقت. لا بدّ من إعادة الاعتبار لوحدة الصف الفلسطيني، ووقف أي تشظٍ بالموقف العربي، فذاك هو الطريق، وإعادة الاعتبار لفكرة المقاومة الوطنية لتحقيق الهدف الأسمى. فإذا أردنا تلمّس الحل الذي يقود لمستقبل آمن لا بدّ من أن يمرّ عبر توحيد القرار الفلسطيني ودعمه، وذاك يتطلّب حاضنة عربية متماسكة. دون ذلك سيبقى الأمر قفزاً في الفراغ. فما يتمّ تضحيات لم يسبق لها مثيل، وبالتالي لا يكون الهدف مجرد إطلاق سراح أسرى لفعل كبير كهذا. نعم إطلاق سراح الأسرى هدف نبيل، لكنه جزء من سقف مطالب لا بدّ من أن توضع بوضوح مقابل هذه التضحيات، فالهدف الذي يدفع ثمنه عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، يجب أن يكون بسقف الوطن وإنهاء الاحتلال.
وصنع نصر في تعزيز القرار الاستراتيجي الفلسطيني، وبدل ما يخطو الكيان الإسرائيلي خطوات نحو مجده المزعوم، نصنع جسر خلاص لشعبنا من الاحتلال، ونعدو نحو تحقيق بناء الدولة الفلسطينية. فهذه الكارثة بقدر ما فيها من القهر، بقدر ما يمكن إدراك بصيص أمل في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، وتوحيد ساحات نضاله وإنهاء التشظي العربي الذي دوماً ما ينعكس على واقع الساحة الفلسطينية.
ورداً على أي إحباط، فإنّ المقاومة لا تموت في الشعوب الحية، وليس هناك من هو أشدّ صلابة من شعب فلسطين. هذه الساحة الفلسطينية التي تمدّنا جميعاً بروح المقاومة، وتعيد تذكيرنا بأهمية إعادة الاعتبار لمشروع نهوض عربي في وجه مشروعات عدة تستهدف هذه الجغرافيا وتاريخها، فهذا قدر النضال الفلسطيني، لشعب ينبت من بين مفاصل صخر، وذاك منطق التاريخ المخضّب بالوجع… لا مفرّ.