هناك قنبلة نووية موقوتة. ينبغي فهْم هذا مما قاله قبل أكثر من أسبوعين الوزير الإسرائيلي عميحاي إلياهو، إذ نُقل عنه أن إسقاط قنبلة نووية على غزة هو من بين خيارات الحرب الحالية، وسرعان ما طُويت الضجة المتواضعة التي أثارها التصريح بفعل تطورات الحرب ذاتها، ولأن أحداً في العالم لا يريد تسليط الأضواء على القوة النووية الإسرائيلية الموجودة وغير المصرَّح بها. بل إن تصريح الوزير لم ينل اهتماماً يوازي الضجة المستمرة حول شعار “من النهر إلى البحر” الذي يطلقه مساندون للفلسطينيين، واستهلّت ولاية بافاريا الألمانية رسمياً حملة تجريم مستخدميه بعقوبة تساوي عقوبة رفع شعارات النازية.
الوزير إلياهو كان الأكثر صراحة في قول ما يشتهي، لكن سبقه إلى ذلك أعضاء في الكنيست طالبوا باستخدام سلاح “يوم القيامة”، ونتنياهو نفسه استخدم لأكثر من مرة كهدفٍ للحرب مثال استسلام ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، ما يضع الخيارات بين التدمير شبه التام بالسلاح التقليدي أو بالنووي على غرار هيروشيما. بمعنى أنه على العالم اليوم قبول خيار الإبادة بالسلاح التقليدي بوصفه أهون الشرين، وعلى الجميع أن يتذكّر الآن ومستقبلاً وجود النووي الذي قد لا يبقى فقط سلاحَ ردع يتعلق بوجود إسرائيل، فهناك أنصار لاستخدامه يريدونها على الأقل “من النهر إلى البحر”.
بل هناك في إسرائيل من يريدها “من النهر إلى النهر”، ومنهم دانييلا فايس التي حددت “في حديث لها قبل أسبوع لمجلة نيويوركر” خريطة الوطن اليهودي بالنيل والفرات. والأهم أن دانييلا تعمل مع أمثالها على رفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية “متضمنة القدس الشرقية” من 800 ألف إلى مليونين أو ثلاثة ملايين، مع التنويه بنجاح هؤلاء في جعل عام 2022 الأكثر نمواً على صعيد البؤر الاستيطانية والمستوطنين منذ عام 1967. الحديث هو عن نهج راسخ متواصل، لا عن سلوك انتقامي كما يُروَّج بعد هجوم حماس، أو كما قد يعتقد البعض بحسن نية.
الفكرة السائدة لدى عموم أنصار اليمين الإسرائيلي أنهم انقضوا على حل الدولتين وانتهوا من عملية السلام، والمرحلة الحالية والمقبلة هي لتعزيز إنجازهم وللتخلّص من الفلسطينيين في الضفة والقطاع، هذا ما يفسّر كثرة التصريحات الرسمية عن التهجير وآخرها تصريح وزيرة الاستخبارات غيلا غملئيل قبل يومين حيث اقترحت إعادة توطين سكان القطاع خارجه، بينما شكت السلطة الفلسطينية من عمليات تهجير في الضفة وراء ستار الحرب على غزة. وما يراهن عليه اليمين بحق أن التراجع عن عمليات الاستيطان في الضفة والقدس مستحيل تماماً، حتى في ظل حكومة غير يمينية، بل يجوز تماماً القول أن تفكيك إسرائيل مساوٍ لتفكيك المستوطنات، إن لم يكن أسهل منه.
هناك أنصار للسلام بين الإسرائيليين بنسبة تناقصت منذ ربع قرن، والبعض منهم طالب مؤخراً عبر الإعلام بالسلام حتى مع حماس على قاعدة أن مَن يريد السلام يبرمه مع العدو الموجود فلا يطالب بعدو على مزاجه. لكن دعاة السلام، ومنهم نشطاء مجتمع مدني يحاولون نسج الأواصر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا يطرحون مشروعاً سياسياً “ثورياً” يتوِّج الحديث عن التعايش. فما يُفهم من طروحاتهم أنهم مع العدالة والحقوق المتساوية بين الطرفين ضمن حدود 1948، ومع حل الدولتين في ما يتعلق بالضفة وغزة.
من أسباب ضعف معسكر السلام أن اليمين الإسرائيلي يبدو سبّاقاً في استشراف مأزق إسرائيل، وفي العمل على تجنبه، بينما يبدو أنصار السلام رجعيين بالبناء على حل الدولتين الذي لم يعد مطروحاً حقاً. المقصود بالمأزق أن القدرة الاستيعابية لمزيد من اليهود تتطلب على الأقل قضم الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وما يطرحه اليمين بخصوص أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني يتراوح بين تهجيرهم وبين بقائهم ضمن نظام فصل عنصري صريح يجردهم من حقهم كشعب ومن حقهم في ملكية أراضيهم. جدير بالذكر أن مساحة فلسطين كاملة هي 27 ألف كيلومتر مربع لا غير، يعيش فيها حالياً ما يقارب 15 مليوناً، منهم خمسة ملايين ونصف فلسطيني في الضفة والقطاع، أي ضمن مساحة تزيد نظرياً على ستة آلاف كيلومتر بينما يقتطع منها المستوطنون مساحات شاسعة جديدة باستمرار. وهناك في إسرائيل حوالى 7 ملايين يهودي، هم نصف اليهود في العالم الذين لهم “حق العودة”.
واقعياً، من الصعب تصور أفق للسلام من دون تفكيك “حق العودة”، أي من دون تفكيك فكرة إسرائيل نفسها. تستطيع قوى مثل حماس أو غيرها إلحاق خسائر بإسرائيل، وهذا مختلف عن تحقيق النصر، فالحرب الدائرة الآن تقول ما هو شديد القسوة عن خسائر طرفيها، إلا من وجهة نظر الذين لا يرون في تدمير غزة خسارة فادحة. وما يقوله ميزان القوى أن إسرائيل تحظى بدعم دولي، فوق امتلاكها الترسانة الأكثر تطوراً من السلاح، وامتلاكها خاصةً السلاح النووي.
بالطبع يتحمل الفلسطينيون مسؤولية تقديم خطاب سياسي طموح وواقعي في آن، فلا تكون شجاعتهم في القتال الرأسمالَ الأكبر، ومن شأن وجود مثل هذا البرنامج تجنب الوقوع في العدمية السياسية المغلَّفة ببرنامج طموح أكثر بكثير جداً مما هو واقعي أو سياسي، وتالياً تجنّب الحسابات الخاسرة ما أمكن. لكن ميزان القوى الذي يميل بشدّة لصالح إسرائيل يرجِّح مسؤولية الإسرائيليين لجهة طرح مشروع سياسي واقعي للعيش بسلام، مشروع لا بد أن يتجنب طموحات اليمين الأيديولوجية، بل أن يكون على الضد منها تماماً.
ربما تكون فكرة الدولة الواحدة، من النهر إلى البحر، هي الخيار الوحيد لتفكيك القنبلة النووية الموقوتة، إذا تبنّاها الإسرائيليون كبديل عن العقيدة الصهيونية “متمثّلة بحق العودة”، وكبديل عن حل الدولتين الميت سريرياً. هكذا يتوقف شعار “من النهر إلى البحر” عن كونه يضمر التخلص من وجود الآخر، كما هو حاله الآن إذ يتوعّد به “متحمّسون” من الجانبين، وعندما يصبح الهدف تجنّب فكرة الغلَبة لن يصعب العثور على نموذج للدولة يعالج مخاوف الطرفين.
خلال أكثر من خمسة عقود التصقت تسمية الفدائي بالمقاتل الفلسطيني؛ يستطيع إسرائيليون نزع “الاحتكار” عندما يقرر فدائيون منهم تفكيك هذه القنبلة النووية الموقوتة.