بعد أقل من إسبوع على هجوم حماس على “غلاف غزة” بدأت تظهر في إلإعلام الروسي الموالي للسلطة نصوص تتحدث عن قدرة أزمة غزة على تغيير الشرق الأوسط. وإذا كانت النصوص في البداية تتساءل عن ماهية هذا التغيير، أصبحت تنطلق منه الآن كحقيقة قائمة وتسترسل في الحديث عن جوانبه المختلفة. البعض يرى في ذلك مبالغة في تقدير إعلام الكرملين لمفاعيل جولة العنف الراهنة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، سيما وأن إشاعات تتردد عن دور ما للكرملين لا يقتصر فقط على مد حماس بالسلاح. والكرملين لا يبدو معنياً بدحض هذه الإشاعات، بل يعززها باستخدام حرب إسرائيل على غزة في مواجهته مع الغرب، وفي مقارنة مجازر إسرائيل بما ينسبه إلى الأوكران في سياق حربه عليهم.
نادرة هي القضايا التي يتقاطع فيها الإعلام الروسي الموالي والمعارض كما يتقاطعان الآن في إدانة هجوم حماس. لكن الفرق شاسع بين الإدانتين. إعلام الكرملين يرفق إدانته بالكثير من التحفظات، تبدأ باستنكار الرد الإسرائيلي “غير المتناسب”، ولا تنتهي بتحميل إسرائيل المسؤولية عن جولات العنف المتكررة برفضها الإعتراف بحق الفلسطينيين بدولة تتمتع بجميع الحقوق التي يقرها القانون الدولي. الإعلام المعارض يزايد على النخب الغربية في إدانته هجوم حماس، ولا يبخل بأوصاف التوحش والبربرية والتخلف.
المدير الأكاديمي Andrey Kortunov للمجلس الروسي للعلاقات الخارجية RIAC، وفي سياق الحديث عن تغيير غزة المفترض للشرق الأوسط، نشر في 12 الجاري في صحيفة NG الروسية نصاً بعنوان “الحرب في غزة ومستقبل الشرق الأوسط”. على الرغم من أن حرب إسرائيل على غزة كان قد مضى عليها أكثر من شهر، إلا أن الأكاديمي يرى من المستبعد الجزم الآن بمسار ونتائج “عملية الجيش الإسرائيلي التي تبدأ الآن”. ومع ذلك، يرى أن من الواضح اليوم أن الجولة الحالية من المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية ستكون لها عواقب واسعة النطاق وطويلة المدى، ليس فقط على طرفي الصراع، ولكن أيضًا على منطقة الشرق الأوسط بأكملها. ويعتبر أن هذا التأثير سيطاول إتجاهات تطور المنطقة، حيث سيحظى بعضها بدفع إضافي، بينما يضعف بعضها الآخر.
يقول الأكاديمي أن التأثير الأول للأزمة يتمثل في تعزيز الإنقسامات في العالم العربي. وإذ يذكّر بالدول العربية التي طبعّت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، يرى أن التطبيع سيكون أكثر صعوبة للبلدان الأخرى، خاصة في حال استمرار الصراع وتصاعد عدد الضحايا وسط المدنيين في قطاع غزة. ويفترض أنها ستصبح أكثر اتساعا الفجوة بين نخب العديد من البلدان العربية المهتمة بتوسيع التعاون مع إسرائيل، وبين “الشارع العربي” الذي يطالب حكوماته بدعم أكثر حزماً للفلسطينيين. ويرى من الأسباب ما يجعله يفترض أن الصراع بين إسرائيل وفلسطين سوف يشكل عاملاً إضافياً من عوامل عدم الاستقرار الداخلي في مختلف أنحاء العالم العربي.
يشير Kortunovإلى أن الأزمة أثبتت أن المجموعات السياسية العسكرية غير الرسمية في المنطقة لا تزال، كما في السابق، لاعباً نشطاً وقوياً للغاية. ويرى أنها هي، وليس الدول المحيطة بإسرائيل، تشكل الخطر الأكبر على أمن الدولة اليهودية. وحتى لو تمكن الجيش الإسرائيلي من القضاء على حماس، “وهو ما لا يمكن تأكيده حتى الآن”، سوف تنشأ مجموعات لا تقل عنها راديكالية. وإذا كان الضعف المستمر للدول العربية قد أعطى إسرائيل في وقت ما مزايا معينة في مواجهة خصوم أكبر بكثير، يتحول هذا الضعف الآن إلى إحدى المشاكل الرئيسية للقيادة الإسرائيلية، حيث لا تجد في المنطقة شركاء حوار مسؤولين.
يتوقف الأكاديمي عند مشكلة المهجرين والنازحين التي ستبرز بعد مرحلة العمليات العسكرية في الصراع الحالي الذي يؤكد أن عدم حل هذه المشكلة لا يزال على أهميته منذ عقود، وبوسعه أن يؤدي إلى إنفجار العنف في اي لحظة. كما يثبت أن الشتات الفلسطيني يختزن طاقة كبيرة على الحشد السياسي، وليس في العالم العربي فقط. وإذ يشير إلى وجود المهجرين السوريين والعراقيين والأفغان إلى جانب الفلسطينيين في المنطقة، يقول بأن هذه المجموعات لا تواصل الضغط على البنية الإجتماعية للبلدان المضيفة فحسب، بل وتساهم أيضاً في التطرف السياسي لمجتمعات هذه البلدان. وإذا تمكنت إسرائيل من تحقيق هدفها بترحيل القسم الأكبر من سكان غزة إلى سيناء، فسوف تبرز مخاطر بتحويل كل مصر إلى “غزة كبرى”.
يرى الأكاديمي أن الأزمة الحالية ستفضي حتماً إلى ترسيخ التشوه القائم في أولويات بلدان المنطقة. وفي ظل الظروف السياسية الراهنة، سيتعين على نخب الدول العربية تقديم الأمن على جميع الأولويات الأخرى. ولا يستبعد تعزيز المواقع السياسية للعسكريين والأجهزة الأمنية في عدة بلدان في المنطقة، وكذلك زيادة ميزانياتها العسكرية. ويرى أن هذا سيفاقم المصاعب الكثيرة التي تواجه التنمية في المنطقة، بدءاً من التزايد السكاني مروراً بالتوسع العمراني غير المنضبط، وانتهاءا بالفساد المستشري على نطاق واسع واللامساواة الإجتماعية الإقتصادية.
موقع Lentaالروسي الإخباري نشر في 13 المنصرم مقابلة مع منسق البرامج Ivan Bocharov في المجلس عينه RIAC، عنونها بالقول “كيف يغيّر صراع إسرائيل مع حماس الشرق الأوسط ولماذا تحشد الولايات المتحدة قواتها في المنطقة ؟”.
الصراع الحالي بدمويته التي تجعله أحد أكثر الحروب دموية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا يراه منسق البرامج نقطة تحول بالنسبة الفلسطينيين، حيث اعتاد هؤلاء على إطلاق النار عليهم والعنف ضدهم. أما بالنسبة لإسرائيل فهو كذلك، لأنه الأكثر دموية منذ العام 1948، برأيه.
مع أن Bocharov يرى أن عملية أوسلو كانت قد تجمدت قبل هجوم حماس، إلا أنه يعتبر أن الفلسطينيين والإسرائيليين كانوا أقرب إلى السلام مما هم عليه الآن. ثم يعود ليقول بأنه لا يرى في المستقبل المنظور بصيص أمل. فمقولة الدولتين التي تنص عليها قرارات المم المتحدة وتؤيدها روسيا، يستبعد أن تكون قابلة لتطرح على طاولة البحث في المرحلة الراهنة. ويرى أن الوضع سيكون أشد قساوة وظلما للفلسطينيين.
السفير الروسي فوق العادة والمحلل في معهد الأبحاث الدولية ومركز دراسات الشرق الأوسط التابع لوزارة الخارجية الروسية Veniamin Popov، تحدث في 15 الجاري على موقع المجلس الروسي RIAC عن “الشرق الأوسط المتغير”. رأى السفير أن يوم 7 أوكتوبر كان يوماً مشهودا في تاريخ الشرق الأوسط، والحرب ستتهي على نحو ما، لكن الوضع لن يعود إلى ما كان عليه، حيث “يتشكل شرق أوسط جديد”. ويقول بأن الحرب في غزة أعادت القضية الفلسطينية إلى الصفحات الأولى في الصحف وعناوين الأخبار على شاشات التلفزة. وكانت هذه ضربة جدية للسياسة الأميركية الخارجية التي بذلت جهدها في السنوات الأخيرة لإبعاد هذه الفضية إلى الخلف، وإقناع الجميع بأنها ليست على أجندة قضايا الشرق الأوسط. لكنه يعترف بان جهود واشنطن حققت “نتائج معينة”، حيث طبعت دول عربية علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وتمكنت من وقف عمل “رباعية الشرق الأوسط ــــ الأمم المتحدة، الإتحاد الأوروبي، روسيا والولايات المتحدة. فالولايات المتحدة كانت تطمح لتثبيت نفسها وسيطاً وحيدا في الصراع العربي الإسرائيلي.
نص السفير الروسي جاء بمعظمه تقريراً عن الدبلوماسية الأميركية في دعم إسرائيل وأوكرانيا وتايوان، والتزاماً بحرفية الموقف الرسمي الروسي. فقد رأى مثلاً في القمة العربية الإسلامية في الرياض النتيجة الأكثر أهمية للحرب في غزة.