في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، تم تعيين كامالا هاريس كمنافسة لدونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية.
كثيرون استبشروا خيرًا من أن هذه المرة ستصيب، وتخترق امرأة “السقف الزجاجي”، بحسب التعبير المتداول عن اختراق النساء لمجالات احتكرها الرجال حتى الآن. هي المرة الثانية التي يتنافس فيها دونالد ترامب مع امرأة على رئاسة بلاده. كانت المرة الأولى ضد هيلاري كلينتون، وقد ربحها.
الجو “الشبابي”، النسبي طبعًا، أحيته هاريس، الستينية، بوجه من صار على أبواب الثمانين… جاءت بعد زلَّات الشيخوخة التي صدرت عن منافسه جو بايدن.
أول ما لم يصدر عن هاريس هو أنها “مرشحة النساء”، أو “مرشحة المرأة”. بعكس ما توقعه البعض. لم تتماه مع هيلاري كلينتون. لم تعلن أنها تنوب عن النساء في ترشحها إلى الرئاسة. قد تكون معتقدة بأن إعلان كلينتون هذا كان السبب في فشلها في وجه ترامب. إذ وجدت فيه ما يستفز شريحة واسعة من الرجال والنساء؛ وهم يتوزعون بين محافظين وديمقراطيين.
وفي هذه الحملة، لا تقول هاريس شيئًا غير ذكر أهم مقاطع كتابها “الحقائق التي تؤمن بها” (2019). تصف فيه حياتها كابنة مهاجرين قادمين من جامايكا والهند. تصف الحي الذي كبرت فيه “عائلات عمالية تجتهد في عملها وتدفع فواتيرها وتتعاون في ما بينها”. وتتابع وصف مسيرتها؛ عن مهنتها كنائبة عامة “لخدمة ضحايا الجرائم، وضحايا نظام العدالة الجنائية المعطّلة”. ثم ترقيها المهني وخوضها معركة البرلمان ونيابة الرئاسة، ومعاركها ضد إدارة ترامب (الأولى).
كل هذا كان مضمون كلماتها في مهرجانات الدعم لها، وبمشروع تتصدر فيه الصحة الإنجابية غيرها من محاور تمايزها عن ترامب، الذي يدعو إلى العكس. فاختُصر هذا الجانب بمعادلة “محبي الحياة” من جهة ترامب، و”محبي الحرية” من جهة هاريس.
ميشال أوباما، السيدة الأولى السابقة، أخذت على عاتقها تفصيل هذا البرنامج. في كلمة لها أمام الحشود المؤيدة ألقت خطابًا من أربعين دقيقة، من دون الاستعانة بغير شغفها: عن أهمية هذه الانتخابات بالنسبة للنساء والبنات، عن ما يسمى بـ”سن اليأس”، عن الحق بالصحة للنساء كافة، عن الصحة الإنجابية للنساء الفقيرات، عن وفاة الأطفال الخدج… وختمت كلمتها متوجهة إلى الرجال الحاضرين، بأنه “اذا خسرنا الانتخابات، فإن ابنتك، زوجتك، نحن النساء، سنكون جميعنا ضحايا جانبية لغضبك”.
في المقابل، ماذا كان يرشح عن ترامب؟
ابحث عن صديقه المحبوب، فلاديمير بوتين، الذي يمكن اعتباره اليوم أحد رواد الذكورة المعاصرة. منقلب على “الأفكار التقدمية” للاتحاد السوفياتي الاشتراكي السابق (روسيا حاليًا مع تعديلات). مهووس بعرض عضلاته: ينشر أفلامًا عن نفسه وهو نصف عار، يقوم برياضات شاقة (الحصان، السباحة في الجليد، المصارعة). ومنذ انقلابه على “اشتراكية” إرثه السوفياتي، لا ينفك عن الحطّ من “قيم الغرب البالية”، بـ”انحلاله”، بـ”ضياعه العائلي”… ومشروعه لهذه السنة هو الاحتفال بـ”سنة العائلة”، تعبيرًا عن تعلقه بالقيم “الأصيلة”، حسب قوله.
أبْلَسة القيم الغربية على لسان بوتين أصابت أميركا، وترامب نفسه. منسجمة مع شخصيته، انحرافاته الجنسية، عنفه الجنسي، نرجسيته العدوانية. هذا الرافد الروسي غذّاه ترامب بحملة “نقد صريح” للنسوية. من أنها “تجاوزت حدودها”، وأنها تجاهلت الخصوصية الرجالية، بتركيزها على الخصوصية الأنثوية وحسب، من أنه لا يحق لها إعادة النظر حول تقسيم العمل بين الجنسين، وأنها بالتالي عليها أن تستمع إلى “حقوق الرجال المهدورة”.
أسلوب ترامب البذيء، والحرية العالية التي يمتع نفسه بها بالكلام عن النساء، ولسانه وسلوكه معهن، المنفلت من كل اعتبار، وقاموسه الذي يعج بعبارات التحقير والشتم والازدراء، كل هذا يجعله عبقريًا في فن الهجاء.
وحتى النساء في صفوف حزبه، مثل نيكي هايلي، زميلته في الحزب، ومنافسته الوحيدة في تمهيديات الحزب الجمهوري، وكلامه عن عائلتها وزوجها بلغة شوارعية.
أسلوب ترامب هذا يضفي على الذكورة هيبة وسلطة ولمْسة معاصرَة. يختلف عن الذكورة التقليدية بأنه ناقص حياء ومسؤولية وشهامة، بما يجعله غريبًا عنها.
العدد الهائل من الذين صوتوا له يضعنا أمام سؤال عن إحدى أقدم الديمقراطيات الغربية، إذ تأتي الولايات المتحدة الثالثة بعد بريطانيا وهولندا، أولى الدول اعتمادًا للحكم الديمقراطي. وفي النسوية، لم تتأخر أميركا أيضًا، هي الرائدة في إطلاق الحركات والنظريات والمراحل النسوية المختلفة، بألوانها كافة.
طبعًا، ثمة أسباب جوهرية لردة فعل الرجال هذه. النسويات الأميركيات، على اختلاف توجهاتهن الجماعية والفردية، تقدمن بسرعة في مشاركتهن في الحياة العامة، وبلوغهن درجات حرية لم يعهده الرجال والنساء السابقون.
“كامالا هاريس، بما أنها مرشحة للسلطة، وليس لأكاديمية بحث أو حركة اجتماعية، كان عليها أن تقنع الرجال البيض والسود بأنها ليست من قماشة الـ”مي تو”. كما فعلت تمامًا مع “نسويتها””
ولكن ثمة حدث أعطى للخوف الرجالي من صعود النساء دفعة خاصة جدًا. حركة ظهرت منذ سبع سنوات، وهي منذ انطلاقتها تغزو المحاكم والبيوت، بصخبها، وعلو موجتها، وعدد ضحاياها وبطلاتها. إنها حركة “مي تو”، المرتبطة بفضيحة أكبر منتجي هوليوود، أي هارفي ونشتاين. والشرارة كانت اتهامه علنًا بالاغتصاب تقدمت به الممثلة أليسا ميلانو. محاكمة صاخبة تتالى في قاعاتها عدد كبير من الممثلات، وحكمها بالسجن على ونشتاين بمدة ست عشرة سنة. الموجة كانت جارفة. خلال أربع وعشرين ساعة، تقدمت 12 مليون أميركية بشكوى إلى المحاكم، بالتحرش الجنسي، أو الاغتصاب.
حركة “مي تو” توسعت من يومها. دخلت الأجواء كلها، ونالت من طبقات وفئات مختلفة. وصارت قادرة على قيادة الضغط لإدخال تغيرات قانونية في المؤسسات، ولملء الثغرات التي تعتريها، وحماية المشتكيات من أصناف العنف الجنسي، إذ ترى هذا العنف من صميم النظام القائم، في العمل كما في العائلة. وأمراضها تلاحق ضحاياها، نفسية وجسدية.
ولكن الحركة لم تنجح في خفض أرقام هذه الاعتداءات. بالعكس، تزايدت. ومعها جرائم قتل النساء لأسباب عاطفية. فكما يحصل مع كل الحركات الصاعدة، أو المكرَّسة، لم تعمل الـ”مي تو”، كما يحلو للمعجبين بها أن يروها. نصبت الحركة نفسها حاكمًا قاضيًا مرافعًا ضد الرجال، أو هكذا بدت في غالبية دعاويها. وهذه الأخيرة، أي الدعاوى، كانت الكاذبة منها تنافس الصادقة. ردة الفعل الرجالية عليها لم تكن إيجابية. صحيح أنها وجدت لنفسها حلفاء، من الأرفع ثقافة وقيمة (ومن بينهم ظهر مغتصبون أيضًا…)، ولكنها في جمهور الرجال كان فعلها “خصي الرجال”، كما يقول نقادها. أي أنها سحبت منهم رخصة الجنس التي كانوا يتمتعون بها، من قوة وإرغام واستهتار برغبة النساء وحرمة أجسادهن.
وترامب الممتلئ رجولة، صاحب الرجولة العدوانية، بكل ما أتاحت له الطبيعة من قدرات، بدا في حملاته الانتخابية، في الثانية أكثر من الأولى، وكأنه يلمْلم من صفوف الرجال كل الذين يحملون هذا الجرح النرجسي القاضي بمحاسبتهم على النيل من اللذة الجنسية بغير إذن من النساء.
كامالا هاريس ترشحت وسط هذا المناخ. وبما أنها مرشحة للسلطة، وليس لأكاديمية بحث، أو حركة اجتماعية، عليها أن تقنع الرجال البيض والسود بأنها ليست من قماشة الـ”مي تو”. كما فعلت تمامًا مع “نسويتها”. الاثنتان لم تجهر بهما، تجنبًا لعدوانية قد تنفجر في وجهها، إذ عليها طمأنتهم على رجولتهم، لتكسب الانتخابات. خصوصًا أن الشابات من جيل “زدْ” هن الأكثر تقدمًا ونشاطًا في حقل “المي تو”، يخضن المعارك على مستويات شخصية وعامة. يقابلها الشباب من الجيل نفسه، الذين تراخت رغباتهم وتكاسلوا في الغرام، وصاروا يبحثون عن حضن رجالي يؤويهم. فلم يجدوا أفضل من ترامب ليكلمهم عن إحباطاتهم، وليشير إليهم بشخصه كيف يكون الرجال “الرجال”…
ليس الغرض هنا البحث في أسباب فوز ترامب، إنما للتفكير في تلك المرحلة من النسوية الأميركية، وربما العالمية؛ حيث تراكمت إنجازاتها، فخلقت حالة من الرفض لها. وكلمة “النسوية” نفسها كانت محظورة طوال حملة هاريس. وكذلك كل الخطاب الذي يشيد بأننا إزاء أول امرأة سوف تطأ عتبة البيت الأبيض، كما فعلت قبلها هيلاري كلينتون.
مقاومة النسوية قد تكون واحدة من مراحل الردّ على تقدمها. ولكنها قد تكون أيضًا انقلابًا عليها. لا شيء مضمونًا في التاريخ. وقد لا ينفع القول بأن على النساء الآن الإسراع في وتيرة نيل مكتسباتهن، أو بلورتها، أو تنظيم صفوفهن. تشبه النسوية الثورات، وربما هي أعمق الثورات؛ لكونها العالم الحميم القديم جذريًا، ومعه العلاقة بين الجنسين. ولكنها تشبه الثورات أيضًا، لكونها بالضرورة تخلق ردود فعل على هذا التغيير. ودونالد ترامب حامل راية الذكورة المقاوِمة لم يكن له أن ينال كل هذه الجماهيرية، أي ما يزيد على السبعين مليون صوت، لولا هذه الردّة التي تسببت بها الثورة النسوية.